»

العراق وطوفان الاقصى

23 تشرين أول 2023
العراق وطوفان الاقصى
العراق وطوفان الاقصى

جمعة العطواني / مركز افق للدراسات والتحليل السياسي

 

يجب أن لا نستغرب عندما يكون موقف العراق الرسمي إزاء العدوان الصهيوني الوحشي على الشعب الفلسطيني في عملية طوفان الاقصى من أكثر المواقف العربية تأييدًا للشعب الفلسطيني في مواجهته للاحتلال الصهيوني، إن لم يكن أكثر المواقف تأييدًا على مستوى الدول العربية على الاطلاق.

لا نتحدث من باب العواطف أو الغلو أو المزايدات السياسية، لكن الواقع السياسي الذي تعيشه الدول العربية يختلف من دولة إلى أخرى، وهذا التباين في المواقف الداخلية لكل دولة يجعلها تتفاوت في قوة التأييد والتعاطف والوقوف مع الشعب الفلسطيني، أو ضده احيانًا.

أغلب الدول العربية (الأنظمة) نراها مطبعة مع هذا الكيان، وتربطها علاقات سياسية وأمنية كبيرة، فهي متعاطفة ومؤيدة للكيان الصهيوني أكثر من وقوفها مع أبناء غزة وضحاياها وشهدائها. بينما شعوب هذه الدول تشعر بآلام الشعب الفلسطيني، وتستشعر حجم المجازر المروعة التي يمر بها أطفال ونساء وشيوخ هذا القطاع المجاهد وهو يتعرض الى إبادة بشرية قل نظيرها.

كما أن هناك دولًا (أنظمة) قد تكون متعاطفة مع الشعب الفلسطيني لكنها غير مستقرة سياسيًا في داخلها، لهذا تجد قرارتها متذبذبة دبلوماسيًا أكثر منها حقيقية أو انسانية.

العراق يختلف عن تلك الدول العربية، فهو رغم تنوع تشكيلته السياسية وتوجهاته العقائدية والحزبية إلا أنه كان منسجمًا تمامًا سياسيًا ودينيًا وشعبيًا.

موقف حكومة السيد محمد شياع السوداني كانت منسجمة مع حماسة وتأييد المجتمع العراقي لعملية طوفان الأقصى، كما إنها منسجمة مع بيانات المرجعية الدينية في النجف الأشرف التي صدرت بهذا الخصوص، إذ انها تدين بشدة هذا العدوان، وتحمل المجتمع الدولي مسؤولية إيقاف نزيف الدم.

من يتابع خطابات السيد محمد شياع السوداني في أكثر من مناسبة فيما يتعلق بعملية (طوفان الاقصى) يجد الرجل يتحدث بثقة عالية بالنفس، ومتكئًا على عمق المجتمع العراقي والمرجعية الدينية، وانسانية القضية الفلسطينية وعقائديتها.

لكن يمكن الجزم بأن كلمته في القمة المصرية التي عقدت يوم السبت 21/ 10/ 2023م كانت من أكثر الكلمات وضوحا وجرأة وصراحة، اذ وصف السيد السوداني بان ما يقوم به الكيان الصهيوني هو عملية (إبادة جماعية، وعبر فيه الكيان الصهيوني عن وجهه الحقيقي).

أكثر من ذلك فان السيد السوداني عبر عن (فشل النظام العالمي في تطبيق ما ينادي به من قيم الانسانية والعدل والحرية، وكانت ولا زالت فلسطين شاهدًا حيًا على هذا الفشل).

ويتساءل رئيس الوزراء مستفهما ومستغربًا (أما آن الوقت لإيقاف الاحتلال، ووقف معاناة الشعب الفلسطيني الصامد)؟

السيد السوداني وجه صفعة الى بعض الزعماء العرب المطبعين عندما قال (يصف بعض الاصدقاء في كلماتهم بأن مقاومة الشعب الفلسطيني هي أعمال إرهابية، بينما الجرائم المدمرة الممنهجة للاحتلال الصهيوني انها اعمال دفاع عن النفس وفق القانون الدولي).

أن كلام السيد السوداني في هذه القمة وبهذه الثقة بالنفس كانت تعبر عن الرأي الفقهي الاسلامي من جهة والذي عبرت عنه المرجعية الدينية، وكذلك يعبر عن نبض الشارع العراقي المنسجم تمامًا مع موقف الحكومة العراقية.

ولهذا تحدث بكل وضوح (بعدم السماح لأي أحد من الزعماء العرب ان يتحدث ويقرر بالنيابة عن الشعب الفلسطيني).

هذا الوضوح والشجاعة في اختيار المفردات والمصطلحات في كلمات رئيس الوزراء أبعدت كل الاقاويل والتكهنات التي تزعم بان السيد محمد شياع السوداني (سيجامل) أو (يداهن) الامريكان خشية من ردود الافعال الامريكية التي تتخوف من مواقفه كونه، يمثل نتاجًا سياسيًا لقوى الإطار الشيعي (القريب من إيران)، اوانه يبحث عن مصالحه السياسية في الحصول على (ولاية ثانية)، ووقوفه على الحياد من هكذا قضايا حساسة تجعل الامريكان يمضون له تلك الولاية.

لكن بهذا الوضوح والصراحة والشجاعة في كلماته عبر بحق عن إرادة المجتمع العراقي وعن عمق القضية الفلسطينية في وجدان الامة، وعن ايمانه الشخصي بهذه القضية، فلم يبالِ بما تقوله امريكا وما تسجله من انطباعات عن مواقفه وانتمائه.

نعتقد ان بيان مرجعية السيد السيستاني بقوة كلماتها وادانتها للعدوان الصهيوني كانت حاضرة في كلمات السيد السوداني ايضا، فإنه (السوداني) لم يتحدث من زاوية انسانية او سياسية فحسب، بل تحدث من زاوية اسلامية ايضا، ولهذا اكتملت اركان الموقف العراقي من أبعاده الدينية والاجتماعية والانسانية، فكان موقف الحكومة يمثل تعبيرا حقيقيا عن عمق القضية..

فمن يتابع بيانات المرجع الاعلى السيد السيستاني يجد ذلك الوضوح في الحكم على ضرورة (ازالة الاحتلال من الاراضي الفلسطينية)، بل انه يدعو العالم (للوقوف بوجه هذا التوحش الفظيع ومنع تمادي قوات الاحتلال عن تنفيذ مخططاته لإلحاق مزيد من الاذى بالشعب الفلسطيني المظلوم). كما أن المرجع يؤكد ان السبيل الوحيد لنيل الشعب الفلسطيني لحقوقه، واحلال السلام في المنطقة تكمن بـ (إزالة الاحتلال من أراضيه).

هذا الانسجام بين المرجعية الدينية والشعب العراقي من جهة، وبين الحكومة العراقية من جهة اخرى هو الذي اعطى زخما كبيرا للحكومة ان تقوم بواجبها القانوني والاخلاقي والشرعي، حتى أن بعض الاطراف التي تدور في فلك السفارة الامريكية لم تستطع ان تعبر عن رأيها برفض التأييد العراقي في هذه المواجهة، كونها تعد حالات شاذة لا قيمة اجتماعية لها، ومنبوذة سياسيا ايضا، لهذا آثرت الانزواء على نفسها.

من ذلك كله نجد ان المقاومة الاسلامية في العراق كانت بمستوى الحدث ايضا، بوصفها تمثل نتاجا لنبض المجتمع العراقي والشرعية الدينية، فقضية فلسطين ثابت عقائدي وفقهي لا يمكن الحياد عنه.

اعلنت فصائل المقاومة الإسلامية في العراقية عن جهوزيتها للمشاركة في ردع العدوان الصهيوني بكل السبل المتاحة والظروف المناسبة.

اكثر من ذلك، فإن اغلب القيادات السياسية الشيعية (ولأول مرة) تهدد بالرد المباشر اذا شاركت أمريكا في الحرب على غزة.

موقف هذه الزعامات هو الاخر جاء متماشيا مع الموقف الكبير للمرجعية الدينية في النجف الاشرف والجموع المليونية التي خرجت في تظاهرات امتلأت بها ساحات التظاهرات في بغداد وبعض المحافظات.

كما هو معلوم فان فصائل المقاومة تتحرك بغطاء شرعي وقانوني وانساني، فضلا عن الحاضنة الاجتماعية التي تعطيها الحصانة القانونية في حركتها، فقد شرعت بعض هذه الفصائل بتوجيه ضربات الى القواعد الامريكية في العراق، وتحديدا في قاعدة عين الاسد غبر الانبار وقاعدة الحرير في اربيل وغيرهما.

ان هذه الضربات التي تعد نقطة شروع في المواجهة من الجبهة العراقية تمثل تهديدًا حقيقيًا للمصالح الامريكية في العراق والمنطقة، وان تجربة الامريكان مع فصائل المقاومة العراقية لاز الت مرارتها علقما لي افواه الادارات الامريكية بعد تجربة احتلال العراق عام 2003م.

كما أن وضع الامريكان السياسي على مستوى المنطقة والعالم لا يسمح لها بالتضحية بتلك المصالح، وهي لا زالت تعيش في مستنقع حرب أوكرانيا اي يومنا هذا.

ومن الجدير بالذكر فان الامريكان يعيشون وضعا صعبا في العراق إذا ما فكروا بالرد على فصائل المقاومة على اعتبار ان عمليات فصائل المقاومة ضد القواعد الامريكية هي الاخرى تعبر عن ارادة الشعب والمرجعية الدينية، فهما الظهير الحقيقي لفصائل المقاومة.

كما ان تلك الضربات تعبر عن رسائل مفادها، أن الشعب العراقي لا يمكن ان يفصل بين امريكا وحجم الجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيوني في غزة وسائر الاراضي الفلسطينية المحتلة وفي مقدمتها القدس الشريف والمسجد الاقصى.

إن استهداف المصالح الامريكية في العراق والمنطقة من شانه ان يجعل الادارة الامريكية تعيد حساباتها في دعم الكيان الصهيوني في استهدافه لأبناء غزة ومحيطها، بل نتصور أن تلك الضربات الموجهة من العراق حتى اليمن، فضلًا عن جنوب لبنان حيث حزب الله من شانها ان تجبر الادارة الامريكية على تطويق الازمة والاستجابة لتلك الرسائل، لأنها لا تريد للمنطقة ان تشتعل بنيران الحرب والذي من شانها ان تؤثر على استقرار العالم عسكريا وأمنيًا واقتصاديًا.