»

ورقة بحثية: احتواء الاحتواء.. قراءة في تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) في مواجهة الاحتواء الأمريكي

14 كانون الثاني 2021
ورقة بحثية: احتواء الاحتواء.. قراءة في تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) في مواجهة الاحتواء الأمريكي
ورقة بحثية: احتواء الاحتواء.. قراءة في تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) في مواجهة الاحتواء الأمريكي

مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير

 تعرض هذه الورقة تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي أثناء الحرب الباردة لما فيها من تشابه كبير مع ما يتعرض له حزب الله من تحديات وتهديدات تكاد تكون وجودية، ومن ذات مصدر التهديد: أمريكا. وأهمية الورقة تكمن في ما تكشفه هذه التجربة من أن الاحتواء ليس سياسة خاصة بالدول، وإنما تطال الأحزاب، أيضًا. فقد سعت أمريكا في حقبة الحرب الباردة إلى احتواء الأحزاب الشيوعية كلها في الغرب، ومنها الحزب الإيطالي، أبرز الأحزاب الشيوعية في العالم خارج بلدان الكتلة الاشتراكية. والأهم أن الورقة تكشف تشابه الأساليب الأمريكية التي اعتمدت وتعتمد. لقد عملت أمريكا على فك التحالفات، وتشويه العلاقات، والتخريب الأمني والاغتيالات، والمحاصرة عبر الحكومة، واحتواء النخب وإحداث الانشقاقات داخل الحزب الإيطالي.

 تأسس الحزب الشيوعي الإيطالي (PCI) عام 1921 بالانفصال عن الحزب الاشتراكي الإيطالي، وانحل عام 1991. كان في فترة الحرب الباردة أكبر حزب شيوعي في الغرب، "حزب طليعي نضالي، جماهيري، ومتماسك"، وثاني قوة سياسية في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. حقق نجاحات انتخابية بلغت أكثر من ثلث أصوات الناخبين والمقاعد البرلمانية، حيث اكتسب شعبية بسبب مشاركته الفاعلة في حركة المقاومة الإيطالية ضد ألمانيا.

 حافظ الحزب الشيوعي الايطالي على طابع دفاعي؛ هدف إلى احتواء كل من الهجوم السياسي الفعال الذي شنته الولايات المتحدة والعاصمة، وضغوط الاتحاد السوفيتي. كان الحزب قادرًا على تقديم نفسه في المجال المحلي أنه القوة السياسية التي تدافع عن الحقوق الدستورية التي تهددها مشاريع الحرب النفسية الأمريكية والتدابير الاستثنائية التي كانت تتخذ من قبل الحكومة، بشخص رئيسها دي غاسبيرو(1945-1953)، رئيس الحزب الديمقراطي، الذي كان يهدف بزعمه إلى حماية "الديمقراطية" الإيطالية من التمدد الشيوعي داخل البلاد.

 في لحظات التوتر القصوى، استمر الحزب الشيوعي الايطالي في العمل داخل الحدود التي حددها الدستور الديمقراطي الذي تمت الموافقة عليه. بين عامي 1947 و1950، كانت استراتيجية الحزب الشيوعي الإيطالي في ذات الوقت متطرفة، ودعائية، وانهزامية ذاتية، ودفاعية. ظهر التطرف في قاموسه ومحتوياته من خلال الالتزام بنظام اقتصادي للاكتفاء الذاتي والتجارة المحدودة، بحيث تمّ اعتماد الاقتصاد المغلق دون مشاركة في التجارة الدولية مع أي دولة أخرى، وعدم ارتباط المشاريع الاقتصادية على الإطلاق بواقع الترابط الاقتصادي العالمي. كانت استراتيجية دعائية حصرية في الأدوات والأشكال، على الرغم من ضغوط العمل القادمة من أقلية "التمرد" وجزء من قاعدة الحزب الشيوعي الايطالي. كانت انهزامية ذاتية، مثل انتخابات عام 1948، لأنه لم تكن هناك إمكانية لمعارضة المساعدات الاقتصادية الأمريكية التي تشتد الحاجة إليها دون دفع ثمن باهظ في الانتخابات. أخيرًا، كانت دفاعية وردة فعل، لأنها تمثل استجابة للمبادرات الناجحة التي اتخذها الآخرون.

 حشد الحزب الشيوعي الإيطالي ضد تعديل النظام الانتخابي النسبي واعتماد قانون انتخابي جديد، وعمل على تشكيل التحالفات الواسعة في العديد من الانتخابات المحلية، بما في ذلك ليس فقط الشريك الاشتراكي التقليدي، ولكن أيضًا المجموعات التقدمية غير الاشتراكية التي أزعجها رجال الدين في العاصمة، وضغط الفاتيكان، والتعصب المناهض للشيوعية. نجح في الخمسينيات في إيجاد بديل في المجال الثقافي، حيث يمكن أن تُبنى هيمنة معاكسة للسيطرة السياسية والاقتصادية المهيمنة من قبل الحكومة والأحزاب الموالية للغرب، واستطاع الحصول على دعم العديد من المثقفين التقدميين غير الشيوعيين وهيمنة قطاعات كبيرة من الثقافة العالية.

 في أوائل الخمسينيات، هددت خطط الولايات المتحدة الخاصة بإيطاليا وجود الحزب الشيوعي الإيطالي.  ومع التهديد الوجودي على الحزب الشيوعي الايطالي واتساع المطالبة الكبيرة بحظره، وتهميشه لسنوات، استعاد جزء من الحياة السياسية، وأضفى الشرعية على نفسه. انضم الى الحملة الواسعة التي تم انشاؤها طلبًا للسلام ضد العسكرة الامريكية المتزايدة بعد بدء الحرب على كوريا. بيد أن الحكومة الإيطالية، حكومة سكيلبا (1954-1955)، وافقت على حزمة الإجراءات "المضادة للشيوعية" التي وضعت لأول مرة في 1951-1952. استخدم الحزب الحزمة للتنديد بالطبيعة غير الليبرالية للنظام الديمقراطي المسيحي، وليظهر نفسه على أنه مدافع عن الحريات السياسية والحقوق الدستورية. بعد عام 1955، كانت المشكلة الرئيسية للحزب الشيوعي الإيطالي هو أن القادة كانوا أكثر ميلًا إلى تبني أصعب الإجراءات المناهضة للشيوعية التي كانت ضرورية أيضًا لكسب التأييد الأمريكي في المنافسة داخل الحزب.

 مع الستينيات، ورغم أن الحزب نجح بمساعدة الاتحاد السوفياتي في احتواء ضغوط أرادت توجيهه باتجاه صراع أهلي جديد بعد حرب (1943-1945) إلا أنه لم يأمن احتدام الصراع الداخلي، وتشوه العلاقات مع الحلفاء والانفكاك. فقد ساءت العلاقة في أواخر الستينيات بين موسكو والأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي، إنريكو بيرلينغير، وصارت المواقف مستقلة، وفقدت توافقها على بعض القضايا، كموقف الحزب الرافض غزو القوات السوفييتية لتشيكوسلوفاكيا العام 1968. وطالت الحزب العديد من الانشقاقات من قبل قياداته وكوادره عُرفت باسم مجموعة المانيفستو «البيان»، العام 1969، بينهم عدد من المثقفين المهمين الذين قدّموا خيارات ورؤى جذرية مختلفة للرأي العام، فهم ليسوا مع سياسة الحزب التقليدي، وليسوا مع القوى المتطرفة. وفي العام 1972 ترشّح هؤلاء للانتخابات ونالوا بين 12-15 مقعدًا، لكن هذه المجموعة تقلّصت.

 الحزب الشيوعي الإيطالي، وبمبادرة من أمينه العام إنريكو برلينغوير، طرح فكرة «التسوية التاريخية» في العام 1976، وهي دعوة تطمينية لتسوية الخلافات والشراكة بحكومة ائتلاف وطني تضم الديمقراطيين المسيحيين والشيوعيين والاشتراكيين. ثم بلور الحزب الشيوعي الإيطالي مع الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإسباني، فكرة «الشيوعية الأوروبية» في العام 1977، وهي امتداد للتسوية التاريخية لغرض الانتقال إلى الاشتراكية في ظل «الحرية والسلام والتعددية»، لكن اغتيال ألدو مورو، زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي، سنة 1978، أنهى هذه التسوية لاتهام الحزب الإيطالي الشيوعي بالوقوف وراء حادثة الاغتيال.

 ويذكر قاضي التحقيق الذي استلم قضية اغتيال مورو، القاضي روزاريو بريوري، في كتاب من المقابلات مع الصحفي جيوفاني فاسانيلا بعنوان "Intrigo Internazionale"، أن موجة الإرهاب الواسعة في إيطاليا والعمليات الأمنية التخريبية، إلى جانب مصفوفتها الداخلية، يجب وضعها في السياق الدولي للحرب الباردة في النزاعات الكامنة ​​حول البحر المتوسط ​​والشرق الأوسط بين قوى أوروبا الغربية والسيطرة على مصادر الطاقة. ويعتقد بريوري أن وراء الوحدة الأمامية ضد الخطر السوفيتي، كانت دول الغرب وكذلك إسرائيل قد انخرطت في اشتباكات مسلحة، لا سيما من خلال استغلال الجماعات الإرهابية التي كانت ستتسلل إليها أيضًا خدمات الكتلة السوفياتية. والأخطر في ما ذكره بريوي قوله: "لقد كنا في حالة حرب دون أن نعرف ذلك".  

بالمحصلة، بدأ الحزب الشيوعي الإيطالي الذي حصل في العام 1976 على 34% من أصوات الناخبين وما يوازيها من المقاعد البرلمانية، بدأ بالتراجع. وبالرغم من استمرار موقف الحزب الأخلاقي ضد الفساد، أخذت شعبيته تتقلّص، وكان ذلك جزءًا من انسداد آفاق، بالصراع المحموم بين الشرق والغرب. بقي ارتباط الحزب بالاتحاد السوفياتي ثابتًا، على الأقل حتى بداية الثمانينات. وقد حاول الحزب تغيير اسمه العام 1980 في اجتماع بمدينة بولونيا إلى «حزب اليسار الديمقراطي» لكن أزمته استفحلت، وعاد وحلّ نفسه إثر انهيار الكتلة الاشتراكية، وانحلال الاتحاد السوفييتي سنة 1991.

المراجع:

عبد الحسين شعبان، "إيطاليا الشيوعية"، الحوار المتمدن، العدد6097، 28/12/2018.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=622814

زهير الخويلدي، "الثورة والحزب في فكر غرامشي"، النبأ، 6/1/2020. https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/25400
Eric J. “Les dessous secrets de l’amitié entre l’Italie et Kadhafi”, 15/6/2010.

https://www.letemps.ch/monde/dessous-secrets-lamitie-entre-litalie-kadhafi
Mario Del Pero, “Containing Containment: rethinking Italy’s experience during the Cold War”, Journal of Modern Italian Studies, 8:4,532-555, 2003.