»

مقال سياسي: "الإيهام بالغرق": سياسة الضغوط القصوى والقدرة على الإرغام

15 كانون الاول 2020
مقال سياسي: "الإيهام بالغرق": سياسة الضغوط القصوى والقدرة على الإرغام
مقال سياسي: "الإيهام بالغرق": سياسة الضغوط القصوى والقدرة على الإرغام

مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير

منذ العام 1979 تاريخ انتصار الثورة الإسلامية في إيران تعاقب الرؤساء الأمريكيون على شنّ حملات عقوبات تهدف إلى تعديل السلوك الإيراني. لطالما تضمنت الحملات الانتخابية للرؤساء الأمريكيين برامج خاصة بالملف النووي الإيراني، كانت ولا زالت تختلف باختلاف تقنيات السياسة الخارجية وأدوات التأثير للجمهوريين والديموقراطيين، إلا أنها تتفق وتشترك بسياسة الضغوط والعقوبات على إيران حتى "الإيهام بالغرق" ومن ثمّ العودة إلى الديبلوماسية المباشرة.

الإيهام بالغرق water boarding هي تقنية تعذيب يتم استخدامها لدفع السجناء والأسرى للاعتراف. حيث يتم تثبيت الشخص على لوح من الخشب بوضعية مائلة، وتعصيب عينيه، ومن ثم صب الماء على أنفه وفمه لمدة محددة من الوقت، وفي الوقت المناسب يتم التوقف ومن ثمّ تكرار العملية. يُحكى أنّ هذه التقنية تنجح دائمًا في نزع الاعتراف بتهم يمكن ألا يكون السجين قد اقترفها. الواقع أن الإدارات الأمريكية تستخدم هذه التقنية في ممارسة الضغوط على إيران منذ أربعة عقود، لمحاولة الحصول على بعض التعديلات في الموقف الإيراني تجاه الهيمنة الأمريكية. فقد تحدّد الإطار الأساسي لسياسة الولايات المتحدة تجاه طهران خلال الساعات الأولى بعد الاستيلاء على السفارة الأمريكية عام 1979، عندما أطلق فريق الأزمات بإدارة كارتر استراتيجية ذات مسارين تشمل كل من الضغط والحوافز من أجل التفاوض. ومنذ ذلك الوقت يعتمد الرؤساء هذا المنطق المزدوج تجاه إيران. من ريغان إلى كلينتون ومن ثمّ بوش الابن، الذي بدأ بالدبلوماسية المباشرة غير المسبوقة، إلى العزلة المطلقة، ثمّ عاد في منتصف الطريق إلى الدبلوماسية وذلك على مدى ثماني سنوات. أما الرئيس أوباما، فقد أوضح منذ وقت مبكر من ولايته أنه سيتم تحديد موعد مبكر للاتفاق مع إيران، وبنهاية السنة الأولى من رئاسته، فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية تحت عنوان "العقوبات الشاملة ضد إيران والمحاسبة والتجريد، ليعود إلى الاتفاق النووي قبل نهاية ولايتّيْه.

أما ترامب فقد بدأ منذ العام 2018، موعد الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي، سياسة الضغوط القصوى بوتيرة أقسى من أي رئيس سبقه، فالمدة التي اعتمدها في صبّ الماء على أنف وفم النظام الإيراني بلغت مدًى غير مسبوق في تاريخ إنهاك طهران. ترامب الذي أمضى ولاية واحدة فقط في إدارة السياسة الخارجية الأميركية، أعلن أنه "سيتمكن من عقد صفقة جديدة مع إيران خلال أسبوع"، في حال إعادة انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة. لقد كان ذلك موعد التوقف عن عملية الايهام بالغرق ليسمح للإيرانيين بأخذ النفس، عندها "سيوافق الإيرانيون على أي صفقة" على حدّ ادّعاء ترامب، في آب الماضي، امام المجلس العام للسياسة الوطنية، ذلك أنّ ترامب يعرف أن إيران أصبحت منهكة، ويعتبر أن وصولها إلى تلك اللحظة وهي منهكة سيجعلها تقلّص مكاسبها المتوقفة في التفاوض إلى الحدّ الأدنى.

إلى ذلك، أوضح الرئيس العتيد للولايات المتحدة جو بايدن، أن ثمة اتفاق "أقوى" مع إيران في إطار "اتفاق ديبلوماسي" كما عبّر عنه. يُحكى في الصحافة الأمريكية أن بايدن لن يعود "لسياسات أوباما الناعمة" مع إيران. إلا أنه سيحاول "الوصول إلى اتفاق ديبلوماسي يقلّص النفوذ الإيراني في المنطقة"، وفي حال عدم إذعان إيران لذلك، ستستمرّ سياسات الضغوط القصوى على إيران.  ومهما كان من حال، يقول ريتشارد غولدبرغ مساعد مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون أن النظام الإيراني "سيضطر عام 2021 إلى التفاوض من الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أيًا كان".

الواقع أن أقسى العقوبات في تاريخ ما بعد الثورة الإسلامية في إيران، فشلت في أن يكون لها تأثير حقيقي على سياسات إيران، صحيح أن العقوبات قد فرضت تكاليف باهظة مادية وأخرى سياسية ثقيلة على الجمهورية الإسلامية، لكنها لم تقنع القادة الإيرانيين التخلي عن المبادئ السياسية لجمهوريتهم. يحتفل الإيرانيون لدى كل إنجاز على المستوى العالمي والإقليمي بقدرتهم على تحمّل الضغوط الاقتصادية الخارجية، ويؤمن الشعب الإيراني بأن هذه الضغوط هي عنصر من عناصر المؤامرة لتقويض الثورة الإسلامية وإخضاع الشعب الإيراني للهيمنة الأمريكية، فاستخدموا العقوبات لمصلحة بلادهم من خلال تعزيز قدراتهم في كافة المجالات. ترى الباحثة في الشأن الإيراني والمستشارة السابقة في وزارة الخارجية الأمريكية، أن "النظام الإيراني هو نظام واسع الحيلة، وقابل للتكيف، ويتمتّع بالخبرة في إيجاد البدائل وتخفيف آثار العقوبات".

يبقى استخدام العقوبات على هذا النحو نهجًا متّبعًا في الديبلوماسية الأمريكية، تستخدمه الولايات المتحدة مع سائر خصومها ابتداءً من كوبا، فنزويلا، كوريا الشمالية، ومؤخرًا سوريا واليمن ولبنان، في إطار جيل جديد من الحروب تمكنها – كما تدّعي – "من دفع أعدائها إلى الخيارات التي تريدها الإدارة الأميركية عبر صناعة الظروف - التي تضع أعداء وخصوم ومنافسي أميركا- أمام خيارات ضيقة تحاول إرغامهم على سلوك الطريق المطلوب، عبر استخدام القدرات غير العسكرية التي تتوفر لديها ومنها، العقوبات المالية، ودعم المعارضة السياسية اللاعنفية لأنظمة الحكم المعادية، والعمليات الهجومية الإلكترونية" بحسب تقرير راند تحت مبدأ أطلق عليه "القدرة على الإرغام".