»

الحرب بين مصر وإثيوبيا

27 تشرين أول 2020
الحرب بين مصر وإثيوبيا
الحرب بين مصر وإثيوبيا

مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير

إنّ النزاع حول سدّ النهضة نزاعٌ حساسٌ طويل الأمد، ومحتدمٌ منذ عام 2011، فالسدّ تهديدٌ وجوديٌّ لمصر وضرورةٌ وجوديةٌ لإثيوبيا، لكن لماذا تتصاعد حدته الآن، وما هي الدوافع؟ هل للمسألة علاقة بالتطبيع، أم بحساباتٍ أمريكيةٍ خاصةٍ تجاه مصر وإثيوبيا، أم بمنطقة جنوب أفريقيا تحديدًا؟ وإلى أي درجة يعتبر النزاع أولويةً في الإدارة الترامبية حتى يتابع ترامب المسألة شخصيًّا، ويدلي بتصريحٍ اعتبرته إثيوبيا تحريضًا على الحرب بينها وبين مصر، علمًا أن كلا البلدين حليفان استراتيجيان لأمريكا؟ ولماذا جاء التوقيت مع إعلان التطبيع بين رئيسي وزراء الكيان الصهيوني والسودان؟ ومن أراد ترامب أن يحرج بذلك؟ تطول لائحة الأسئلة، ومع اختلافات التحليل ما بين قائل بأنه دعمٌ معنويٌّ لمصر، أو ضوءٌ أخضر لضرب السد، أو ورقةٌ انتخابيةٌ جديدةٌ لترامب ...، إلا أن الأكيد أن الانجرار إلى الحرب ليس لصالح مصر أو القارة الأفريقية برمتها، ولا يخدم إلا المصلحة الأمريكية في زمن الانكفاء.

صرح ترامب، خلال مكالمته الهاتفية: "إن الوضع خطيرٌ للغاية لأنّ مصر لن تكون قادرةً على العيش بهذه الطريقة. وسينتهي بهم الأمر بتفجير السد...وقد قلتها، وأقولها مجددًا وبصوت عالٍ وواضح، سوف يفجّرون ذلك السدّ. عليهم أن يفعلوا شيئا ما". وكانت أمريكا قد فرضت عقوبات في شهر أيلول الماضي على إثيوبيا، واقتطعت 100 مليون دولار من المساعدات لها، الخطوة التي رآها البعض اجراءً عقابيًّا من ترامب ضدّ إثيوبيا، بعد أن رفضت البلاد الوساطة التي تقودها الولايات المتحدة مع مصر والسودان، والتوقيع على اتفاق أمريكي حول آلية عمل السد.

إنّه لأمرٌ مثيرٌ للغرابة أن تفشل المفاوضات الأمريكية في التوصل إلى حلٍّ لأزمة السدّ؛ مع ما تملكه أمريكا من قوةٍ اقتصاديةٍ وعسكريةٍ وشبكة علاقاتٍ ومساعداتٍ وغيرها من الموارد؛ التي يمكن استخدامها باتجاه الحل السلمي، خاصةً كونها أزمةً مائيةً ليس فيها تداخلٌ سكانيٌّ، فضلًا عن أن الفشل الأمريكي في الضغط على إثيوبيا، من أكثر الأمور إثارةً للجدل في ظل الشراكة الأثيوبية الأمريكية الطويلة الأمد والتحالف الاستراتيجي بينهما.

إن البحث عن وجود مصلحةٍ أمريكيةٍ في تغذية النزاع يقضي بالبحث عن وجود مصلحةٍ "إسرائيلية" من وراء ذلك، أيضًا. فالاستراتيجية "الإسرائيلية" الأوسع تجاه أفريقيا التي أعلنها نتنياهو عام 2016 تحت شعار "العودة إلى أفريقيا" تهدف إلى توسيع مستوى العلاقات مع دول أفريقية مهمة، مثل إثيوبيا باعتبارها «بوابة "إسرائيل" إلى أفريقيا»، واستكشاف آفاق مدّ جسور التعاون مع دول جديدة في القارة. 

إنّ العلاقات الأمنية والسياسية بين كلٍّ من أثيوبيا والكيان الصهيوني قديمةٌ وقويةٌ، وأكثر متانةً في الفترة الأخيرة. وقد نما حجم التبادل التجاري بينهما بصورةٍ لافتة خلال أقل من سنة، ما بين شهري أيلول 2019 وآذار 2020. إذ ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 70 مليون دولار، 58.4 مليون دولار منها هي قيمة الاستثمارات الإسرائيلية بالسوق الإثيوبية وفق تقريرٍ صادرٍ عن "المعهد الإسرائيلي للصادرات والتعاون الدولي"، إلى 300 مليون دولار تقريبًا في آذار 2020. إذًا، تحتاج "إسرائيل" إثيوبيا على المستوى الاقتصادي لتجاوز تباطؤ محركات الاقتصاد الإسرائيلي، والانفتاح تجاريًّا عبر البوابة الإثيوبية إلى جنوب شرقي آسيا، كونها بوابة منطقة القرن الإفريقي لمتاخمتها للبحر الأحمر والمحيط الهندي. وتشير تجارب دول المنطقة التي تتعامل مع الكيان الصهيوني إلى الفارق الكبير في ميزان المصالح الاقتصادية والأمنية لصالح الكيان نفسه.

بيد أنّ الأهداف الإسرائيلية من توثيق العلاقة مع أديس أبابا أعمق من كونها الأهمية الاقتصادية لإثيوبيا، فهناك الأهمية السياسية والاستراتيجية، أيضًا. إن ما تسعى إليه "إسرائيل" كما أوضح نتنياهو؛ في لقائه بممثلي الكيان في إفريقيا في شباط ،2017 هو محاولة دفع إثيوبيا إلى تغيير أنماط تصويتها في المنظمات الدولية، وذلك ضمن مشروع أكبر يهدف إلى إحداث تحوّلٍ في أنماط تصويت نسبة من الدول الأربع والخمسين التي تشكل القارة الإفريقية. وبالتالي، النجاح في إحداث تحول في آلية التعاطي مع "إسرائيل" في المحافل الدولية. أما الدوافع فهي اتساق التصويت مع مصالح "تل أبيب" ضدّ مشاريع القرارات "المعادية" لها، أو على الأقل الامتناع أو التغيب عن التصويت، كون إثيوبيا أكثر دول شرقي إفريقيا التي تصوّت إلى جانب مشاريع القرارات المناوئة لها، كحرصٍ من أديس أبابا على علاقتها بالعالم العربي، وفقًا لتفسير أوساط التقدير الاستراتيجي في "تل أبيب".

وبالعودة للحديث عن أزمة سد النهضة، وأي مصلحةٍ للكيان الصهيوني في تناميها، فإنّ التلويح بالحرب على إثيوبيا ذات تداعياتٍ خطيرةٍ عليها اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا، وسيشكّل ورقة ضغطٍ رابحةٍ وفاعلةٍ لمن يستخدمها باتجاه تعديل أو تغيير بعض موازين القوى. إن موقف الكيان الصهيوني من الأزمة صعبٌ على حدّ وصف نائب مدير معهد القدس للدراسات الإستراتيجية والأمنية، عيران ليرمان. أمّا وقد رفضت إثيوبيا المفاوضات الأمريكية، فإنّ أمريكا و"إسرائيل" أمام "أهون الشرين"، بالنسبة لهما. إذ إن الاختيار ما بين البلدين يعني ترجيح كفة الاختيار ما بين دعم العلاقة بإثيوبيا والاستفادة من الشراكة معها في مجالات إدارة المياه وتحليتها والزراعة الصحراوية، مع ما يعنيه ذلك من تهديد استقرار حكم ونظام السيسي الداعم لها، أو دعم الصديق المصري المتضرر منه، والخياران يتيحان قدرًا من الخسارة. من هنا، قد يكون الضغط مقدمةً لدورٍ "إسرائيلي" أكبر، يقدّم فيه الكيان نفسه كوسيطٍ لحل الأزمة مقابل تنازلاتٍ كبيرة ومهمة، والمصالح عديدةٌ ومفتوحة وهي تتجاوز الشراكة التجارية مع إثيوبيا، وكل ما على المستفيدين من حدوث أزمة في القارة الإفريقية ونشر الفوضى فيها التقويم وتنظيم الأولويات وفق المصالح والمطامع.

ويحتمل اشتداد الأزمة أن يعود بفوائد عدة على كلٍّ من الأمريكي والإسرائيلي، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر. أولها عملية تطويع سريعة وكسر أي ممانعة إثيوبية قبل الانتخابات الأمريكية في سياق ملف التطبيع. ثانيها، تقويض النمو الاقتصادي الإثيوبي السريع خوفًا من الاستقلالية السياسية والابقاء عليه عاجزًا وتابعًا. والفائدة الثالثة هي التضحية بالعلاقات الإثيوبية "الإسرائيلية" مقابل التعويض على "إسرائيل" بتفعيل اتفاق يقضي بنقل مياه النيل إلى الأراضي المحتلة عبر سيناء. وهي الفائدة الأكبر والاحتمال الأقوى لحاجة "إسرائيل" إلى المياه ومطامعها في مياه النيل.

أما الفائدة الرابعة، فهي محاولة التضييق على اليمن من جهة خليج عدن، وقد يكون من كل من السودان وإثيوبيا، وإن كان مستبعدا من كليهما بسبب انعكاسات الجو العام الشعبي السوداني الرافض للتطبيع، بعكس الوضع الأسهل في إثيوبيا لعدم وجود هذا الحاجز ولإمكانية تشكيل الجالية اليهودية الإثيوبية الكبيرة في "إسرائيل" ورقة ضغط. بينما تكمن الفائدة الخامسة بأنها تؤمن وصولًا أمريكيًّا سهلًا، أي بشروط أمريكية، إلى جنوب أفريقيا عبر إثيوبيا لمواجهة التهديدات الصينية من جهة المحيط الهندي وجنوب المحيط الأطلسي.