»

إيمانويل ماكرون، لبنان والفرصة الأخيرة: الإصلاح أو الخراب

03 أيلول 2020
إيمانويل ماكرون، لبنان والفرصة الأخيرة: الإصلاح أو الخراب
إيمانويل ماكرون، لبنان والفرصة الأخيرة: الإصلاح أو الخراب

د. طارق عبود

يقول الروائي الأفغاني "خالد حسيني" في روايته "عدّاء الطائرة الورقية": "أن تؤلمك الحقيقة أفضل لك أن تضحك على نفسك بالكذب".  
ينطبق هذا الكلام اليوم على فئة كبيرة من الطبقة السياسية في لبنان، بعدما أوصلوا البلد إلى الانهيار والخراب. وهي حقيقة مؤلمة تنذر بنهاية مرحلة، والدخول في مرحلة جديدة سيجدُ الكثير منهم أنفسهم بعدها خارج الصورة.
لقد مرّ  لبنان في تاريخه الحديث، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى بتغييرات جوهرية، إذ انتقل من السيطرة العثمانية إلى الانتداب الفرنسي بعد الحرب الأولى، ثم كُتِبتْ وثيقة العام 1943 على مشارف نهاية الحرب العالمية الثانية بعد انتصار الحلفاء. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط المنظومة الاشتراكية، واستفراد الولايات المتحدة بالنظام الدولي الجديد؛ دخل لبنان في مرحلة التسوية الأميركية السعودية السورية عبر اتفاق الطائف. وبعد الحادي عشر من أيلول واجتياح أفغانستان و العراق، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، دخل لبنان في مرحلة الضياع الاستراتيجي، ولم يكن لبنان في تاريخه على هذا القدر من التخلّع.
وكأنّ لبنان يتهيأ اليوم، للدخول في مرحلة جديدة على أعتاب تشكّل نظام دولي جديد، تشارك فيه الدول الآسيوية الصاعدة. لذا، فالجميع يدرك ويسلّم بواقع أنّ العالم يتغيّر، وأنّ الولايات المتحدة لم تعُدْ هي نفسها كما كانت في مطلع الألفية الجديدة، وأنّ تراجعًا مضطردًا وواضحًا يحكم حركتها، وتأثيرها في المنطقة.

الفرنسيون يملأون الفراغ بالحركة المناسبة

الفرنسيون، كقوة دولية واقعية، قرأوا واقع المرحلة جيدًا، فرغبوا أن يملأوا الفراغ في المنطقة الأكثر تعقيدًا، ويستثمروا فيه، لم يُتَحْ لهم ذلك، سوى بعد استنفاذ الأميركيين جلَّ أوراقهم في الصراع القائم مع المحور الآخر، ولا سيما في موضوع الضغوط القصوى التي مارستها إدارة الرئيس دونالد ترامب منذ وصوله الى البيت الأبيض منذ أربع سنوات، والوصول اليوم إلى حائطٍ مسدود. ولأنّ الفرنسيين يملكون ميزة الطرف الدولي الأكثر مقبولية من غيرهم في لبنان؛ عزم الرئيس الفرنسي أن يرمي بثقله، متصدّرًا المشهد اللبناني بعد انفجار المرفأ، وهو على يقين أنّه من خلال البوابة اللبنانية يستطيع تحقيق مصالحه الإقليمية، وحتى إضافة بعض النقاط السياسية المهمة في الداخل الفرنسي. وهو يعلم جيدًا أنّ ذلك لا يستوي إلا بفتح الطريق من قِبل القوة الأكثر حضورًا في لبنان والمنطقة، وعدم معاداتها، بل والتنسيق معها. فهل فتحت المقاومة الباب للرئيس الفرنسي واسعًا للدخول إلى المشهد اللبناني؟ ولماذا أفرغ الرئيس الفرنسي كل غضبه على الصحفي الفرنسي المشهور جورج مالبرونو، لأنه أعلن منذ يومين عن تنسيق ولقاءات بين ماكرون والحزب في لبنان؟

ماذا عن التسوية؟

 ثمة همسٌ عن بوادر لتسوية كبرى في المنطقة على أبواب الانتخابات الأميركية، وأنّ التسوية القادمة بدأت تتشكّل معالمها من إيران، وظهرت بشائرها الأولى لبنان، وستمتد لاحقًا إلى سوريا. كون هذا المحور متشابك المصالح والمصائر. وثمة رأي يقول إنّ رئيس دولة غربية كبرى كفرنسا لا يستطيع الإدلاء بهذا الكم من المواقف غير النمطية، وتحريك قطعه الحربية في المياه الإقليمية اللبنانية من دون التنسيق مع المقاومة وأنّ جملة "لبنان أكبر من حجمه" التي قالها ماكرون قبل وصوله إلى بيروت،تحمل دلالةً على أنّ لبنان هو المدخل الإلزامي إلى حلبة الصراع الفعلية في المنطقة. ولكن ماذا عن الاندفاعة الفرنسية؟

الفرنسيون بين خيارين

 بعد كل ما حصل في السنوات الأخيرة، وبعد الدفع الفرنسي لمساعدة لبنان في مؤتمر سيدر، وبعد يأس الفرنسيين من الطبقة السياسية، وبالتالي تجميد أموال سيدر، تماشيًا أيضًا مع الحصار الأميركي على لبنان؛ وجد الفرنسيون أنفسهم بين خيارين: فبين ترميم النظام السياسي الاقتصادي، عبر تعديلات جوهرية في بنيته المهترئة، وبين انهيار هذا النظام والدولة اللبنانية على خلفية الانهيار الاقتصادي،ودخول غير طرف دولي وإقليمي على خط الأزمة اللبنانية، اختار الفرنسيون الخيار الأول. ولكنّ الفرنسيين يعلمون جيدًا تجذّر الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية في النظام اللبناني، ويدركون أيضًا أن أيّ مقاربة تقليدية للملف ستحرق أصابع فرنسا ورئيسها، لذلك كانت لغتهم صدامية مع الطبقة السياسية، وعلى مرحلتين.
ولكن ثمّة أسئلة كثيرة تدور في عقول اللبنانيين، وأكثرها حضورًا السؤال عن هذه الاندفاعة الفرنسية اليوم، بعدما تُرِكَ لبنان لمصيره في كل الفترة السابقة؟

ماذا عن الورقة الفرنسية؟

 وصل ماكرون إلى بيروت فكان الرئيس المكلّف يتلقى التهاني والتبريكات، بعد غموض كبير استمر إلى عصر الأحد الماضي. تكليف سريع ومفاجئ لرئيس حكومة جديد قريب من دوائر الإليزيه. زيارات متنوعة، بانتظار اللقاء الأهم في قصر الصنوبر، وعلى الأراضي الفرنسية الرسمية.
فماذا جاء في الورقة، وماذا أراد ماكرون أن يقول أمس؟ نستطيع أن نستخلص عددًا من النقاط في خطابه وحركته البيروتية منها:
أولًا: بدا أنّ هناك توجيه اتهام  لجزء وازن من الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية في لبنان.
ثانيًا: في موضوع تشكيل الحكومة، حدّد الرئيس الفرنسي مهلة أسبوعين كحد أقصى لتشكيل الحكومة العتيدة. 
ثالثًا: أصرّ على تحديد الأولويات وترتيبها تفاديًا للانهيار الشامل، بعيدًا من مراوغات السلطة، أو من يرغب في التشاطر.
رابعًا: بدا واضحًا تحجيم الدور المنفوخ لبعض الأحزاب اللبنانية، عبر وأد مطالبها السياسية في مهدها، بوضع مسألة السلاح، والانتخابات النيابية المبكرة في مقدمة البحث، وأجّل الأمر إلى ما بعد تنفيذ المرحلة الأولى من الورقة.إضافة إلى ترحيل البحث في مقاربة موضوع النظام السياسي، والعقد الجديد إلى وقت لاحق يعقب تنفيذ المرحلة الأولى، وتبيان نتائجها.
خامسًا: وضع جدول زمني للعمل،وهو العنصر الأكثر أهمية،غير قابل للماطلة والتسويف،وأنّ فريقًا فرنسيًا سيتابع آليات العمل بإشراف الإليزيه.
سادسًا: رفع سيف العقوبات الاقتصادية فوق رؤوس الشخصيات السياسية بشكل واضح وصريح، في حال أي محاولة لعرقلة الورقة الفرنسية.
سابعًا: إيصال رسالة واضحة وشفافة للطبقة السياسية أنّ الفرنسيين يعلمون كل التفاصيل عن أعمالهم، وما ارتكبوه في الفترة السابقة.وإشارة الورقة بشكل واضح لموضوع الكهرباء،ومعمل سلعاتا،هو للدلالة على تفادي النقاش العقيم في المرحلة المقبلة. إضافة إلى التركيز على التدقيق الجنائي في مصرف لبنان،وإصلاح القطاع المصرفي،وموضوع الكابيتال كونترول وغيرها من التفاصيل.
ثامنًا: أموال مؤتمر سيدر جاهزة، ولكنها مرتبطة بآلية الإصلاح.
تاسعًا: وعد فرنسي بمساعدات إضافية، في حال سارت الأمور بالطريق الصحيح.
عاشرًا: إشارة الرئيس الفرنسي صراحة أمام المجتمعين،أنهم ألزموا أنفسهم بالموافقة على الورقة، والنقطة الأكثر أهمية،قوله أنّه يضع كلّ رصيده السياسي لتنفيذ الورقة الإصلاحية الفرنسية،في تلميح إلى أنّ المعرقلين سيكونون في مواجهة مباشرة معه، لأنهم سيسهمون في القضاء على مستقبله السياسي في حال فشل في تنفيذ ورقته في لبنان.
ولكنّ اللبنانيين يسألون أيضًا: هل أنّ الفرنسيين يقدّمون خدماتٍ مجانية؟ويستفسرون عن ماهية المصلحة الفرنسية في التدخل بهذا الشكل الواضح في الملف اللبناني؟
هنا أيضًا ثمة عدد من النقاط قد تجيب عن هذا السؤال:
أولًا: الحركة الفرنسية تجاه لبنان غير معزولة عن الصراع في شرق البحر المتوسط، بين الأوروبيين والأتراك، وبدرجة أقل بينهم وبين الروس و الصينيين.
ثانيًا: ثمة مصلحة واضحة وكبيرة عند الفرنسيين في الاستثمار في مصادر الطاقة وتنويعها، من غاز و نفط،عبر الكميات الكبيرة الموعودة في المياه الإقليمية اللبنانية، والاستفادة أيضًا من قطاع الكهرباء المتعثّر والكارثي في لبنان.
ثالثًا:يسعى الفرنسيون إلى الدخول بثقلهم في عملية إعادة إعمار مرفأ بيروت،والاستثمار فيه كأحد المرافئ البالغة الأهمية في شرق المتوسط.وربما تمهيدًا لمرحلة إعادة أعمار سوريا.
رابعًا: ترميم الواقع السياسي اللبناني قبل انهياره،والمحافظة على هوية #لبنان الاقتصادية الغربية،مخافة القطع مع الغرب،وبالتالي التوجه شرقًا، نحو الصين وروسيا، وتغيير وجه لبنان الاقتصادي المتماهي مع الغرب. واستغلال الأتراك أيضًا لهذا الواقع المَرَضي للبنان، ما يفتح لهم الباب للولوج إلى منطقة تشكّل حساسية كبيرة وتاريخية عند الأوروبيين الذين يقفون اليوم خلف الحراك الفرنسي في لبنان، لقطع الطريق على الصين و تركيا. وتسعى فرنسا بقوة إلى تثبيت قدميها بقوة على ضفة المتوسط، بعدما خسرت ليبيا و سوريا.
خامسًا: ثمة عامل داخلي فرنسي مؤثّر يتعلق بالرئيس الفرنسي، وهو تحقيق إنجاز على مستوى السياسة الخارجية الفرنسية،ولا سيما في منطقة معقّدة ومتشابكة كالشرق الأوسط.
سادسًا وأخيرًا: تقديم أوراق للأطراف السياسية الإقليمية والدولية،أنّ بإمكان فرنسا أن تكون عرّابة لحوار قادم بين الغرب وحزب الله،كونها الطرف الأكثر مقبولية عند المقاومة.