»

ما بعد النظام الليبرالي العالمي

07 تموز 2020
ما بعد النظام الليبرالي العالمي
ما بعد النظام الليبرالي العالمي

Project Syndicate - JOSEPH S. NYE, JR

إنّ السؤال الذي سيواجهه جو بايدن إذا ما هزم دونالد ترامب في نوفمبر، ليس ما إذا كان سيتم إعادة النظام الدولي الليبرالي. إنّما سيكون حول إمكانية عمل الولايات المتحدة في قالبٍ داخليٍّ من الحلفاء لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان بينما تتعاون مع مجموعةٍ أوسع من الدول لإدارة المؤسسات الدولية القائمة على القواعد اللازمة لمواجهة التهديدات العابرة للدول.

يعتبر العديد من المحللين أنّ النظام الدولي الليبرالي انتهى مع صعود الصين وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. لكن إذا هزم جو بايدن ترامب في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر)، فهل عليه أن يحاول إعادة إحيائه؟ ربما لا، ولكن يجب استبداله.

يشير النقّاد إلى أنّ النظام الأميركي بعد عام 1945 لم يكن عالميًا ولا شديد الليبرالية على الدوام. حيث فسحت أميركا المجال لأكثر من نصف العالم (الكتلة السوفيتية والصين) باعتماد أنظمة اشتراكية وتضمّن النظام العالمي العديد من "الدول الاستبدادية". كانت الهيمنة الأمريكية مبالغًا فيها دائمًا. ومع ذلك، تسعى الولايات المتحدة أن تتصدّر في إنشاء السلع العامّة العالميّة، وإلاّ فلن يكون باستطاعتها توفيرها - وسيعاني الأمريكيون. إنّ الوباء الحالي خير مثالٍ على ذلك، وعليه يجب أن يكون الهدف الواقعي لإدارة بايدن إنشاء مؤسساتٍ دوليةٍ قائمةٍ على قواعد ذات عضويةٍ مختلفةٍ في قضايا مختلفة.

ولكن، هل توافق الصين وروسيا على المشاركة؟ خلال التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم يستطع أيٌّ منهما تحقيق التوازن مع القوة الأميركية، وقد تجاوزت الولايات المتحدة السيادة سعياً وراء القيم الليبرالية. حيث قامت الولايات المتحدة بقصف صربيا وغزو العراق دون موافقة مجلس الأمن الدولي. كما أيّدت قرار الجمعية العامّة للأمّم المتحدة في عام 2005 الذي أنشأ "المسؤولية عن الحماية" للمواطنين الذين تعاملت معهم حكوماتهم بوحشية - وهو مذهبٌ استخدمته عام 2011 لتبرير قصف ليبيا، بحجة حماية مواطني بنغازي.

يصف النقّاد هذا السجل بالغطرسة الأمريكية بعد الحرب الباردة – حيث شعرت روسيا والصين بالخداع. فعلى سبيل المثال، عندما أدّى التدخّل الذي قاده حلف الناتو في ليبيا إلى تغيير النظام - بينما صوّره المدافعون على أنّه التطوّر الطبيعي للقانون الإنسانيّ الدوليّ. على أيّ حالٍ، وضع نمو القوّة الصينيّة والروسيّة حدودًا أكثر صرامةً للتدخّل الليبرالي.

يشدّد كلٌّ من روسيا والصين على معيار السيادة في ميثاق الأمم المتحدة، والذي بموجبه لا يمكن للدول خوض الحرب إلاّ لغاية الدفاع عن النفس أو بموافقة مجلس الأمن. وقد كان الاستيلاء على أراضي الجار بالقوة أمرًا نادرًا منذ عام 1945، وقد أدّى إلى عقوباتٍ مكلفةٍ عندما حدث (كما هو الحال مع ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014). بالإضافة إلى ذلك، كثيرًا ما أذن مجلس الأمن بنشر قوات حفظ السلام في البلدان المضطربة، وحدّ التعاون السياسي من انتشار أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البالستية.

أما على مستوى العلاقات الاقتصادية الدولية، فإنّ قواعدها تتطلب مراجعة. حيث كانت رأسمالية الدولة في الصين، وقبل الوباء بوقتٍ طويلٍ، تدعم النموذج التجاري غير العادل الذي خالف عمل منظمة التجارة العالمية، وهذا ما سوف يؤدي إلى فصل سلاسل الاستيراد العالمية، خاصة عندما يكون الأمن القومي في خطر.

على الرغم من أن الصين تشكو عندما تمنع الولايات المتحدة شركات مثل Huawei من بناء شبكات اتصالات G 5 في الغرب، بحجة أنّ هذا الموقف يتوافق مع السيادة. وعليه، تمنع الصين Google وFacebook  وTwitter من العمل في الصين لأسبابٍ أمنية. يمكن أن يساعد التفاوض على قواعد تجاريةٍ جديدةٍ في منع التصعيد المؤدي إلى فك الارتباط. في الوقت نفسه، لا يزال التعاون في المجال الماليّ الحاسم قوياً، على الرغم من الأزمة الحاليّة.

على النقيض من ذلك، فإنّ التبادل البيئي يُشكّل عقبةً لا يمكن التغلب عليها أمام السيادة، بسبب التهديدات العابرة للأوطان. وبغض النظر عن الانتكاسات للعولمة الاقتصادية، فإنّ العولمة البيئية ستستمر، لأنّها تطيع قوانين البيولوجيا والفيزياء، وليس منطق الجغرافيا السياسية المعاصرة. إنّ مثل هذه القضايا تهدّد الجميع، ولكن لا يمكن لأي دولة أن تديرها بمفردها. بالنسبة لقضايا مثل COVID-19 وتغيّر المناخ، فإنّ القوة الجماعية تتمتع بعدًا إيجابيًا.

في هذا السياق، لا يكفي التفكير في ممارسة السلطة على الآخرين. يجب على الولايات المتحدة أيضًا التفكير في ممارسة السلطة مع الآخرين. إن اتفاقية باريس بشأن المناخ ومنظمة الصحة العالمية تساعد الجميع. فمنذ التقى ريتشارد نيكسون وماو تسي تونغ في عام 1972، تعاونت الصين والولايات المتحدة على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية. وللمفارقة هنا، سيكون السؤال الصعب لبايدن هو ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة والصين التعاون في إنتاج المنافع العامة العالمية بينما تتنافسان في المجالات التقليدية لتنافس القوى العظمى.

يُعدّ الفضاء الإلكتروني قضيةً جديدةً ومهمةً - عبر الحدود الوطنية، وهو أيضًا يخضع لضوابط حكوميةٍ ذات سيادة. ولكن من الممكن تطوير القواعد المتعلقة بحرية التعبير والخصوصية على الإنترنت بين دائرةٍ داخليةٍ من الديمقراطيات، ولكن لن يتم التقيّد بها من قبل جميع الدول.

ووفقًا لما اقترحته اللجنة العالمية بشأن استقرار الفضاء الإلكتروني، فإنّ بعض القواعد التي تمنع العبث بالبنية الأساسية للإنترنت، تكون أيضًا في مصلحة المستبدين إذا أرادوا الاتصال. ولكن عندما يستخدمون وكلاء لحرب المعلومات أو للتدخل في الانتخابات (التي تنتهك السيادة)، هنا لا بد من تعزيز القواعد. وعلى غرار المفاوضات التي حصلت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة (على الرغم من العداء الأيديولوجي)، وذلك بهدف الحدّ من التصعيد من الحوادث في البحر، سيتعين على الولايات المتحدة والدول الأخرى التفكير المماثل وإعلان المعايير التي تنوي الالتزام بها، وسيكون الردع ضروريًا.

إنّ الإصرار على القيم الليبرالية في الفضاء الإلكتروني، لا يعني نزع سلاح الولايات المتحدة من جانبٍ واحد. بدلاً من ذلك، يجب على الولايات المتحدة، بحسب رأي الكاتب، أن تُميّز بين القوة الناعمة المسموح بها للإقناع المفتوح والقوّة الصلبة لحرب المعلومات السريّة. يمكن السماح بالبرامج والبث الصريح من قبل روسيا والصين، لكن هذا لن يكون صحيحًا بالنسبة للسلوك السريّ المنسّق مثل التلاعب في وسائل التواصل الاجتماعي. وستواصل الولايات المتحدة انتقاد سجلات حقوق الإنسان في هذه البلدان.

وتظهر الاستطلاعات أن الجمهور الأمريكي يريد تجنب التدخلات العسكرية، ولكن لا يؤيد الانسحاب من التحالفات أو التعاون متعدد الأطراف، فهو لا يزال يهتم بالقيم.

إنّ السؤال الذي سيواجهه جو بايدن إذا ما هزم دونالد ترامب في نوفمبر، ليس ما إذا كان سيتم إعادة النظام الدولي الليبرالي. إنّما حول إمكانية عمل الولايات المتحدة في قالبٍ داخليٍّ من الحلفاء لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان بينما تتعاون مع مجموعةٍ أوسع من الدول، لإدارة المؤسسات الدولية القائمة، على القواعد اللازمة لمواجهة التهديدات العابرة للدول مثل تغير المناخ والأوبئة والهجمات السيبرانية والإرهاب وعدم الاستقرار الاقتصادي.