»

كيف تنتهي الهيمنة؟ القوة الأمريكية في طريقها إلى التفكك

23 حزيران 2020
 كيف تنتهي الهيمنة؟ القوة الأمريكية في طريقها إلى التفكك
كيف تنتهي الهيمنة؟ القوة الأمريكية في طريقها إلى التفكك

Foreign Affairs/ by Alexander Cooley and Daniel H. Nexon

نشرت مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية مقالًا لألكسندر كولي، أستاذ العلوم السياسية في كلية بارنارد بجامعة كولومبيا، ودانيال نيكسون، أستاذ مشارك في كلية الخدمة الخارجية وقسم الحكومة في جامعة جورجتاون، تناولا فيه الهيمنة الأمريكية التي بدأت أمارات نهايتها تلوح في الأفق.

في مستهل مقالهما أكد الكاتبان على وجود دلائل عديدة تفيد بوجود أزمة في النظام العالمي. ويريان أن الاستجابة الدولية غير المنسقة لجائحة كوفيد-19، والكساد الاقتصادي الناجم عن ذلك، وظهور السياسة القومية مجددًا، وتشديد إغلاق الحدود بين الدول، كلها مؤشرات تنذر بظهور نظام دولي أقل تعاونًا وأشد هشاشة. وبِحسْب عديدٍ من المراقبين، تشدد مثل هذه التطورات على مخاطر السياسات التي يتَّبعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وتتعلق بشعار «أمريكا أولًا» الذي رفعه، ونكوصه عن حمل لواء القيادة العالمية.

وحتى قبل حدوث الجائحة، دَأَبَ ترامب على التقليل من شأن التحالفات والمنظمات الدولية، مثل: «حلف شمال الأطلسي (الناتو)»، ودَعَمَ تفكك الاتحاد الأوروبي، وانسحب من مجموعة من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، وتودد إلى رؤساء مستبدين، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون. كما شكَّك في فضائل وَضْع قيمٍ ليبرالية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، في صميم السياسة الخارجية. وتفضيل ترامب الواضح لسياسات المعاملات ذات المُحصِّلة الصفرية يدعم فكرة أن الولايات المتحدة تنفض يدها من التزامها بتعزيز نظام دولي ليبرالي.

انحراف مؤقت

وأشار الكاتبان إلى أن بعض المحللين يعتقدون أن الولايات المتحدة لا تزال قادرة على تغيير مثل هذا الوضع، وذلك من خلال استعادة الإستراتيجيات التي تمكَّنت من خلالها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ما بعد الحرب الباردة، من بناء نظام دولي ناجح ومستدام.

وإذا تمكَّنت الولايات المتحدة فيما بعد ترامب من استعادة مسؤوليات القوة العالمية، فإن هذه الحقبة (التي تولى فيها ترامب قيادة البلاد) – بما في ذلك تفشي الجائحة التي ستشكل ملامحها – يمكن أن يُنظَر إليها على أنها انحراف مؤقت في بوصلة البلاد، بدلًا عن أن تكون خطوة على طريق الفوضى الدائمة.

ويلفتنا الكاتبان إلى أن التنبؤات بالتراجع الأمريكي والتحوُّل في النظام الدولي كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون جديدة، وكانت خاطئة باستمرار. ففي منتصف ثمانينات القرن الماضي اعتقد عديد من المحللين أن القيادة الأمريكية كانت في طريقها إلى الزوال. وانهار نظام «بريتون وودز» – الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من واحد إلى 22 يوليو (تمّوز) 1944 – في السبعينات.

وواجهت الولايات المتحدة منافسة شرسة من اقتصادات أوروبا وشرق آسيا؛ لا سيما ألمانيا الغربية واليابان، وكان الاتحاد السوفيتي يشبه السمة الثابتة للسياسة العالمية. ومع ذلك، وبحلول نهاية عام 1991، تفكك الاتحاد السوفيتي رسميًّا، ووقفت اليابان على أعتاب «العقد المفقود» من الركود الاقتصادي، وكانت مهمة إعادة توحيد ألمانيا باهظة التكلفة؛ مما أنهك ألمانيا الموحدة. وعلى الجانب الآخر، شهدت الولايات المتحدة عقدًا من الابتكار التكنولوجي المزدهر والنمو الاقتصادي المرتفع على نحو غير متوقع. وكانت النتيجة ما عَدَّه كثيرون «لحظة القطب الواحد» للهيمنة الأمريكية.

واستدرك الكاتبان قائلَيْن: لكن الأمور هذه المرة مختلفة حقًا؛ إذ إن القوى التي كانت سببًا في ترسيخ الهيمنة الأمريكية من قبل تقود اليوم عملية تفكيكها. وكانت هناك ثلاثة تطورات ساعدت على نشوء النظام الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة:

أولًا، مع هزيمة الشيوعية، لم تواجه الولايات المتحدة أي مشروع أيديولوجي عالمي كبير يمكن أن ينافسها.

ثانيًا، مع تفكك الاتحاد السوفيتي والبنية التحتية من المؤسسات والشراكات التابعة له، كانت الدول الضعيفة تفتقر إلى بدائل مهمة للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عندما يتعلق الأمر بتأمين الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي.

ثالثًا، كان الناشطون في الأحزاب والحركات العابرة للحدود ينشرون القيم والمعايير الليبرالية التي عززت النظام الليبرالي.

واليوم انقلبت هذه الديناميكيات نفسها، وباتت تقف ضد الولايات المتحدة: لقد حلَّت حلقة مفرغة تعمل على تآكل قوة الولايات المتحدة محل الحلقات الحميدة التي عززت تلك القوة يومًا ما. ومع صعود القوى العظمى مثل الصين وروسيا، أصبحت المشاريع الاستبدادية وغير الليبرالية تنافس النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة.

ويمكن للبلدان النامية – وحتى بلدان متقدمة متعددة – أن تبحث عن رعاة بدلاء بدلًا عن الاستمرار في الاعتماد على السخاء والدعم الغربيين. وتقف الشبكات غير الليبرالية العابرة للحدود، والتي غالبًا ما تكون شبكات يمينية، ضد معايير النظام الدولي الليبرالي ومعتقداته، والتي بدا في يوم من الأيام أنه لا سبيل إلى تغييرها. باختصار: القيادة العالمية للولايات المتحدة ليست في حالة تراجع فحسب؛ إنها تتفكك وتضمحل. كما أن التراجع ليس دوريًا، ولكنه دائم.

لحظة اختفاء الأحادية القطبية

وأوضح الكاتبان أن الحديث عن التراجع الدائم للولايات المتحدة قد يبدو غريبًا في وقتٍ تنفق فيه على جيشها أكثر مما ينفقه منافسوها السبعة التاليين مجتمعين، كما تنفق على شبكة لا مثيل لها من القواعد العسكرية الرابضة فيما وراء البحار. وقد لعبت القوة العسكرية دورًا مهمًا في تكوين التفوق الأمريكي والحفاظ عليه في حقبة التسعينات من القرن الماضي والسنوات الأولى من هذا القرن، ولم تستطع أي دولة أخرى تقديم ضمانات أمنية موثوقة عبر النظام الدولي بأكمله.

لكن كانت هناك عدة عوامل أخرى أدَّت إلى السيادة العسكرية الأمريكية على نحو أكبر من عامل ميزانات الدفاع – فمن حيث القيمة الحقيقية، انخفض معدل الإنفاق العسكري الأمريكي خلال التسعينات ولم يتضخم إلا بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) – وهذه العوامل هي: اختفاء الاتحاد السوفيتي كمنافس، وتزايد حجم الأفضلية التكنولوجية التي يتمتع بها الجيش الأمريكي، واستعداد معظم القوى العالمية من الدرجة الثانية للاعتماد على الولايات المتحدة بدلًا عن بناء قوتها العسكرية الخاصة.

وإذا كان ظهور الولايات المتحدة بصفتها قوة أحادية القطب يتوقف في الغالب على تفكك الاتحاد السوفيتي، فإن استمرار هذا القطب الواحد خلال العقد اللاحق نبع من حقيقة أن الحلفاء الآسيويين والأوروبيين كانوا راضين عن الاشتراك في الهيمنة الأمريكية.

ولفت الكاتبان إلى أن الحديث عن لحظة القطب الواحد يشوِّش على السمات الحاسمة للسياسة العالمية التي شكَّلت أساس السيادة الأمريكية. إذ أدَّى انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف إلى إغلاق باب المشروع الوحيد للنظام العالمي الذي يمكن أن ينافس الرأسمالية. فاختفت الماركسية اللينينية (وفروعها) تقريبًا كمصدر للمنافسة الإيديولوجية.

كما انهارت جميع البنية التحتية العابرة للحدود المرتبطة بها مؤسساتها وممارساتها وشبكاتها – بما في ذلك حلف وارسو، ومجلس المساعدة الاقتصادية المتبادلة، والاتحاد السوفيتي نفسه – من الداخل. ومن دون الدعم السوفيتي، قررت معظم الدول والجماعات المتمردة والحركات السياسية التابعة لموسكو أنه من الأفضل الإقرار بالهزيمة أو الالتحاق برَكْب الولايات المتحدة. وبحلول منتصف التسعينات، لم يكن هناك سوى إطار واحد مهيمن للمعايير والقواعد الدولية: النظام الليبرالي الدولي للتحالفات والمؤسسات التي تتخذ من واشنطن مقرًا لها.

تمتعت الولايات المتحدة وحلفاؤها – المشار إليهم اختصارًا باسم «الغرب» – باحتكارٍ فعليّ للمحسوبية خلال فترة القطب الواحد. ومع بعض استثناءات محدودة، قدَّما معًا المصدر الوحيد المهم للأمن والسلع الاقتصادية والدعم السياسي والشرعية. ولم يعد بإمكان البلدان النامية ممارسة أي ضغوط على واشنطن عبر التهديد بتحويل القِبْلة إلى موسكو أو الإشارة إلى خطر الاستيلاء الشيوعي لحماية نفسها من الاضطرار إلى إجراء إصلاحات محلية.

ولم يقف أمام اكتساح القوة والنفوذ الغربيين أي عائق لدرجة أن عديدًا من صانعي السياسة أصبحوا يؤمنون بالنصر الأبدي لليبرالية. ولم تجد معظم الحكومات بديلًا قابلًا للتطبيق.

 لا يوجد بديل

وأضاف الكاتبان أنه خلال التسعينات، لم تجد معظم الحكومات بديلًا عمليًا لمصادر الدعم الغربية. ومع عدم وجود مصدر دعم آخر، كان من المرجح أن تلتزم الدول بشروط المساعدات الغربية التي تتلقاها. وواجه المستبدون انتقادات دولية شديدة ومطالب مُلِحة من المنظمات الدولية التي يسيطر عليها الغرب. صحيح أن القوى الديمقراطية استمرت في حماية بعض الدول الاستبدادية (مثل المملكة العربية السعودية الغنية بالنفط) من هذه المطالب لأسباب إستراتيجية واقتصادية.

وانتهكت ديمقراطيات عتيدة، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، المعايير الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية، وتمثَّل ذلك على نحو أكثر دراماتيكية في التعذيب والتسليم الاستثنائي للمطلوبين خلال ما يسمى بالحرب على الإرهاب. لكن حتى هذه الاستثناءات المنافقة عززت من هيمنة النظام الليبرالي؛ لأنها أثارت إدانة واسعة النطاق أعادت التأكيد على المبادئ الليبرالية، ولأن المسؤولين الأمريكيين استمروا في التعبير عن التزامهم بالمعايير الليبرالية.

وفي الوقت نفسه دعم عدد متزايد من الشبكات العابرة للحدود – يطلق عليها غالبًا «منظمات المجتمع المدني الدولية» – ظهور البنية الناشئة للنظام الدولي بعد الحرب الباردة. وخدمت هذه الجماعات والأفراد باعتبارها جنود مشاة للهيمنة الأمريكية من خلال نشر المعايير والممارسات الليبرالية على نطاق واسع. ودعا انهيار الاقتصادات المخططة مركزيَّا في عالم ما بعد الشيوعية أفواجًا من الاستشاريين والمقاولين الغربيين إلى المساعدة في تقديم النصح والإرشاد لإصلاحات السوق.

وكانت العواقب وخيمة في بعض الأحيان، كما هو الحال في روسيا وأوكرانيا؛ حيث أفقر العلاج بالصدمة المدعوم من الغرب عشرات الملايين في حين أدَّى إلىى ظهور فئة من الأوليجارشيين الأثرياء (القلّة الحاكمة) الذين حولوا أصول الدولة السابقة إلى إمبراطوريات شخصية. وعملت المؤسسات المالية الدولية والهيئات التنظيمية الحكومية والمحافظون المركزيون والاقتصاديون على بناء إجماع النخبة لصالح التجارة الحرة وحركة رأس المال عبر الحدود.

وسعت جماعات المجتمع المدني أيضًا إلى توجيه دول ما بعد الشيوعية والدول النامية نحو النماذج الغربية للديمقراطية الليبرالية. ونصح فرق من الخبراء الغربيين الحكومات بشأن صياغة الدساتير الجديدة والإصلاحات القانونية والأنظمة الحاكمة ذات الأحزاب المتعددة. وراقب المراقبون الدوليون، ينتمي معظمهم إلى الديمقراطيات الغربية، الانتخابات في بلدان نائية. وأقامت المنظمات غير الحكومية، التي تدعو إلى توسيع حقوق الإنسان وتدافع عن المساواة بين الجنسين وحماية البيئة، تحالفات مع الدول المتعاطفة ووسائل الإعلام.

وساعد عمل النشطاء العابرين للحدود والمجتمعات العلمية والحركات الاجتماعية في بناء مشروع ليبرالي شامل للتكامل الاقتصادي والسياسي. وطوال حقبة التسعينات، ساعدت هذه القوى على إنتاج وهم يُسمى بنظام ليبرالي حصين يرتكز على الهيمنة الأمريكية الدائمة. والآن انهار هذا الوهم.

عودة القوة العظمى

وأردف الكاتبان قائلَيْن: واليوم، تقدم قوى عظمى أخرى تصورات منافسة للنظام العالمي، وغالبًا ما تكون تصورات استبدادية تجذب عددًا من قادة الدول الضعيفة. ولم يعد للغرب اليد الطولى في احتكار المحسوبية. وتنافس منظمات إقليمية جديدة وشبكات غير ليبرالية عابرة للحدود نفوذ الولايات المتحدة. وتمثل التحولات طويلة المدى في الاقتصاد العالمي، لا سيما صعود الصين، عديدًا من هذه التطورات. وقد غيرت هذه التغييرات المشهد الجيوسياسي.

في أبريل (نيسان) عام 1997، تعهد الرئيس الصيني جيانغ زيمين، والرئيس الروسي بوريس يلتسين، «بتشجيع تعدد الأقطاب في العالم وإقامة نظام دولي جديد». ولسنوات ظل عدد من العلماء الغربيين وصانعي السياسات يقللون من أهمية مثل هذه التحديات، أو رفضوها بالكلية على أساس أنها أمنيات كاذبة. وقالوا إن بكين ظلت ملتزمة بالقواعد والمعايير الخاصة بالنظام الذي تقوده الولايات المتحدة، مشيرين إلى أن الصين استفادت كثيرًا من النظام الحالي.

وحتى مع تزايد تأكيدات روسيا على إدانتها للولايات المتحدة في العقد الأول من هذا القرن ودعوتها إلى عالم متعدد الأقطاب، لم يعتقد المراقبون أن موسكو باستطاعتها حشد الدعم من أي حلفاء مهمين. وشكَّك محللون غربيون على وجه التحديد في أن بكين وموسكو يمكنهما التغلب على عقود من عدم الثقة والتنافس من أجل التعاون ضد جهود الولايات المتحدة للحفاظ على النظام الدولي وتشكيله.

وكان هذا التشكك منطقيًا خلال ذروة الهيمنة العالمية للولايات المتحدة في التسعينات، بل ظل مقبولًا خلال معظم العقد التالي. ولكن إعلان عام 1997 يبدو الآن بمثابة مخطط لكيفية محاولة بكين وموسكو إعادة تنظيم السياسة الدولية في العشرين سنة الماضية.

والآن تنافس الصين وروسيا على نحو مباشر الجوانب الليبرالية للنظام الدولي من داخل مؤسسات ومنتديات تابعة لذلك النظام؛ وفي الوقت نفسه تبني بكين وروسيا نظامًا بديلًا من خلال مؤسسات وأماكن جديدة يتمتعان فيها بنفوذ أكبر ويمكنهما التقليل من التأكيد على حقوق الإنسان والحريات المدنية.

في الأمم المتحدة – على سبيل المثال – يتشاور البلدان على نحو روتيني حول التصويت والمبادرات. وبصفتهما عضوين دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، نسَّقا فيما بينهما للوقوف ضد التدخلات الغربية وانتقداها وقدَّما دعوات من أجل تغيير النظام. واعترضا على مقترحات يرعاها الغرب بشأن سوريا، وجهود لفرض عقوبات على فنزويلا واليمن.

وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، من عام 2006 إلى 2018، صوتت الصين وروسيا بالطريقة نفسها بنسبة 86٪ من المرات، وهذه النسبة تزيد عن نسبة الـ78٪ التي اتفقا فيها في التصويت من عام 1991 حتى عام 2005. وعلى النقيض، ومنذ عام 2005، جاء تصويت الصين متفقًا مع تصويت مع الولايات المتحدة بنسبة 21٪ فقط من النسبة الإجمالية للتصويت.

وقادت بكين وموسكو مبادرات الأمم المتحدة لتعزيز المعايير الجديدة، وعلى الأخص في مجال الفضاء الإلكتروني، الذي يمنح الأولوية للسيادة الوطنية على حساب حقوق الأفراد، ويحد من مبدأ المسؤولية عن الحماية، ويحد من سلطة قرارات حقوق الإنسان التي يرعاها الغرب.

وألمح الكاتبان إلى أن الصين وروسيا كانتا في طليعة المطالبين بإنشاء مؤسسات دولية جديدة ومنتديات إقليمية تستبعد الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة. ولعل أشهرها مجموعة بريكس، التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا.

ومنذ عام 2006 قدَّمت المجموعة نفسها باعتبارها إطارًا ديناميكيًّا لمناقشة المسائل المتعلقة بالنظام الدولي والقيادة العالمية، بما في ذلك بناء بدائل للمؤسسات التي يسيطر عليها الغرب في مجالات إدارة الإنترنت وأنظمة الدفع الدولية والمساعدة الإنمائية. وفي عام 2016، أنشأت دول «البريكس» بنك التنمية الجديد والمخصص لتمويل مشاريع البنية التحتية في العالم النامي.

كما دفعت الصين وروسيا في اتجاه تكوين عدد كبير من المنظمات الأمنية الإقليمية الجديدة؛ بما في ذلك المؤتمر المعني بالتفاعل وتدابير بناء الثقة في آسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي وآلية التعاون والتنسيق الرباعية – والمؤسسات الاقتصادية، بما في ذلك البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) الذي تديره الصين، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي المدعوم من روسيا (EAEU).

وتأسست منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) – وهي منظمة أمنية هدفها تعزيز التعاون بين الأجهزة الأمنية وتشرف على المناورات العسكرية التي تُجرى كل عامين – في عام 2001 بمبادرة من بكين وموسكو. وأضافت الهند وباكستان كعضوين كاملي العضوية في عام 2017. والنتيجة النهائية هي ظهور هياكل موازية للحكم العالمي تهيمن عليها دول استبدادية تنافس الهياكل القديمة الأكثر ليبرالية.

«أوراسيا» الكبرى

ونوَّه الكاتبان إلى أن نقاد دول البريكس، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي المدعوم من روسيا (EAEU)، ومنظمة شانغهاى للتعاون (SCO)، غالبًا ما يصفونها بأنها «متاجر حوارات» لا تقدم فيها الدول الأعضاء سوى القليل لحل المشكلات بالفعل أو الانخراط في تعاون هادف. لكن معظم المؤسسات الدولية الأخرى لا تختلف عن ذلك كثيرًا.

وحتى عندما يَثْبُت عدم قدرتها على حل المشاكل الجماعية، تسمح المنظمات الإقليمية لأعضائها بالتأكيد على القيم المشتركة وتعزيز مكانة السلطات التي تعقد هذه المنتديات. وتنتج عنها علاقات دبلوماسية أكثر كثافة بين الأعضاء، تسهِّل بدورها على هؤلاء الأعضاء بناء تحالفات عسكرية وسياسية.

باختصار، تشكل هذه المنظمات جزءًا مهمًا من البنية التحتية للنظام الدولي، وهي البنية التحتية التي كانت تهيمن عليها الديمقراطيات الغربية بعد نهاية الحرب الباردة. وفي الواقع، جلبت هذه المجموعة الجديدة من المنظمات غير الغربية آليات الحوكمة العابرة للحدود إلى مناطق مثل آسيا الوسطى، التي كانت منفصلة في السابق عن عديد من مؤسسات الحوكمة العالمية.

ومنذ عام 2001 انضمت معظم دول آسيا الوسطى إلى منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا (EAEU) والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) ومشروع الاستثمار في البنية التحتية الصينية المعروف باسم مبادرة الحزام والطريق (BRI).

كما تستهدف الصين وروسيا الآن المناطق التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها تقليديًّا. على سبيل المثال تسعى الصين لإقامة تعاون بين مجموعة 17 + 1 (التعاون بين الصين ودول وسط وشرق أوروبا) ومنتدى China -CELAC (الصين – مجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي) في أمريكا اللاتينية.

وتوفر هذه التجمعات للدول في هذه المناطق مجالات جديدة للشراكة والدعم، بينما تتحدى أيضًا تماسك الكتل الغربية التقليدية. وقبل أيام فقط من توسُّع مجموعة 16 + 1 لتشمل اليونان العضو في الاتحاد الأوروبي في أبريل 2020، تحركت المفوضية الأوروبية لوصف الصين بأنها «منافس نظامي» وسط مخاوف من أن صفقات مبادرة الحزام والطريق (BRI) في أوروبا تقوِّض لوائح ومعايير الاتحاد الأوروبي.

ويبدو أن بكين وموسكو تديران تحالفهما المشترك بنجاح، في تحدٍ للتوقعات بأنهما لن يكونا قادرين على التسامح مع بعضهما البعض بشأن مشاريعهما الدولية. وقد كان هذا هو الحال حتى في المجالات التي يمكن أن تؤدي فيها مصالحهما المتباينة إلى توترات كبيرة. إذ تدعم روسيا مبادرة الحزام والطريق (BRI) الصينية صراحةً، على الرغم من انتهاكاتها في آسيا الوسطى، والتي لا تزال موسكو تراها بمثابة الفناء الخلفي لها.

في الواقع ومنذ عام 2017، تحول خطاب الكرملين من الحديث عن «مجال نفوذ» روسي محدد على نحو واضح في أوراسيا إلى تبني فكرة «أوراسيا الكبرى» التي تتوافق فيها الاستثمارات والتكامل بقيادة الصين مع الجهود الروسية لإغلاق الباب في وجه النفوذ الغربي. واتَّبعت موسكو نمطًا مماثلًا عندما اقترحت بكين لأول مرة تشكيل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) في عام 2015. وبينما رفضت وزارة المالية الروسية في البداية دعم البنك، فإن الكرملين غيَّر موقفه بعد التفكير في الاتجاه الذي يمضي فيه التيار. وانضمت روسيا رسميًّا إلى البنك في نهاية العام.

كما أثبتت الصين استعدادها لتفهُّم المخاوف والحساسيات الروسية. وانضمت الصين إلى دول البريكس الأخرى في الامتناع عن إدانة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، على الرغم من أن هذه الخطوة تخالف بوضوح معارضة الصين طويلة الأمد للأيديولوجية الانفصالية وانتهاكات وحدة الأراضي.

علاوةً على ذلك، قدَّمت الحرب التجارية لإدارة ترامب مع الصين لبكين عوامل تحفيز إضافية لدعم الجهود الروسية لتطوير بدائل لنظام الدفع الدولي السريع الذي يسيطر عليه الغرب والتجارة المُقَوَّمة بالدولار من أجل تقويض المدى العالمي لأنظمة العقوبات الأمريكية.

نهاية احتكار المحسوبية

يوضح الكاتبان أن الصين وروسيا ليستا الدولتين الوحيدتين اللتين تسعيان إلى جعل السياسات العالمية أكثر مواتاة للأنظمة غير الديمقراطية، وأقل قبولًا للهيمنة الأمريكية. ففي وقت مبكر من عام 2007، أثار إقراض «المانحون المارقون»، مثل فنزويلا الغنية بالنفط حينئذ، إمكانية أن هذه المساعدة غير المقيدة بشروط ربما تقوض مبادرات المساعدة الغربية التي تهدف إلى تشجيع الحكومات على تبني إصلاحات ليبرالية.

ومنذ ذلك الحين، فتح المقرضون التابعون للحكومة الصينية، مثل بنك التنمية الصيني، خطوطًا ائتمانية ضخمة في جميع أنحاء إفريقيا والعالم النامي. وفي أعقاب الأزمة المالية عام 2008، أصبحت الصين مصدرًا مهمًا من مصادر القروض وتمويل الطوارئ للبلدان التي لا يمكنها الوصول إلى المؤسسات المالية الغربية أو البلدان المستثناة منها. وفي أثناء الأزمة المالية، قدمت الصين أكثر من 75 مليار دولار في هيئة قروض لاتفاقيات الطاقة لبلدان في أمريكا اللاتينية – مثل البرازيل والإكوادور وفنزويلا – وإلى كازاخستان، وروسيا، وتركمانستان، وأوراسيا.

ويشير التقرير إلى أن الصين ليست الداعم البديل الوحيد. فبعد الربيع العربي، أقرضت دولًا خليجية، مثل قطر، مصر أموالًا سمحت للقاهرة تفادي اللجوء إلى صندوق النقد الدولي في هذا الوقت العصيب. ولكن الصين لطالما كانت إلى حد بعيد البلد الأكثر طموحًا في هذا الصدد. وخلُصَت دراسة أعدها مختبر أبحاث «AidData» (الموجود في معهد الأبحاث العالمية بجامعة وليام أند ماري) إلى أن إجمالي المساعدة الأجنبية الصينية بين عامي 2000 و2014 وصل إلى 354 مليار دولار، وهو ما يقارب إجمالي المساعدة الأجنبية الأمريكية الذي وصل إلى 395 مليار دولار.

وتجاوزت الصين منذئذ مدفوعات المساعدة الأمريكية السنوية. وعلاوة على ذلك، تقوِّض المساعدة الصينية الجهود الأوروبية الرامية إلى نشر المعايير الأوروبية. وتشير العديد من الدراسات إلى أنه على الرغم من أن عمليات التمويل الصينية غزَّت التنمية في العديد من البلدان، إلا أنها أيضًا أججت فساد محسوبية النظام وعاداته السافرة.

وفي البلدان الخارجة من الحرب، مثل: نيبال، وسريلانكا، والسودان، وجنوب السودان، تدفقت مساعدة التنمية وإعادة التعمير الصينية إلى الحكومات المنتصرة؛ مما حماها من الضغط الدولي لاستيعاب خصومها المحليين وتبني نماذج صنع سلام ومصالحة أكثر تحررًا.

المقرضون التابعون للحكومة الصينية فتحوا خطوطًا ائتمانية ضخمة في شتى أنحاء العالم النامي

نهاية احتكار الغرب للمحسوبية شهد النهوض المتزامن للقوميين الشعوبيين الغاضبين حتى في البلدان التي كانت مترسخة بشدة في مدار الولايات المتحدة الاقتصادي والأمني. وقد وصف أمثال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي أنفسهم بأنهم حماة السيادة المحلية ضد التخريب الليبرالي، ذلك أنهم تجاهلوا المخاوف الغربية بشأن الانحطاط الديمقراطي في بلدانهم وأكدوا على أهمية علاقاتهم الاقتصادية والأمنية المتزايدة مع الصين وروسيا.

وفي حالة الفلبين، أنهى دوتيرتي مؤخرًا معاهدة عسكرية دامت عقدين مع الولايات المتحدة بعد أن ألغت واشنطن تأشيرة رئيس الشرطة الوطنية السابق، المتَهَم بانتهاكات حقوق الإنسان في حرب الفلبين الدامية والمثيرة للجدل على المخدرات.

وبطبيعة الحال، بعض هذه التحديات المحددة التي تواجه القيادة الأمريكية ستزداد ثم تتناقص لأنها تنبع من ظروف سياسية متغيرة وتصرفات القادة الفرديين. لكن توسيع «خيارات انسحاب» الجهات والمؤسسات والنماذج السياسية البديلة لممارسة المحسوبية، تبدو الآن سمة دائمة من سمات السياسات الدولية. فالحكومات تتمتع بمساحة أكبر بكثير للمناورة. وحتى عندما لا تغير الدول داعميها على نحوٍ نشط، فثمة احتمالية أنهم يمكن أن يقدموا لها نفوذًا أكبر. ونتيجة لذلك فإن الصين وروسيا لديهما الصلاحية لتنافسا الهيمنة الأمريكية وبناء نظم بديلة.

قوى طاردة مركزية

ويلمح كولي ونيكسون إلى أن تحولًا مهمًا آخر يشكل انفصالًا عن اللحظة أحادية القطبية فيما بعد الحرب الباردة، إذ لم تعد شبكات المجتمع المدني عبر الوطنية، التي شكلت معًا النظام الدولي الليبرالي، تتمتع بالقوة والنفوذ الذين كانا لديها في السابق. والمنافسون غير الليبراليين الآن يتحدونها في العديد من المجالات، بما فيها الحقوق الجنسانية والتعددية الثقافية ومبادئ الحكم الديمقراطي الليبرالي.

نشأت بعض هذه القوى الطاردة المركزية في الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية الغربية نفسها. على سبيل المثال عملت مجموعة الضغط الأمريكية «الاتحاد القومي للأسلحة» عبر الحدود الوطنية لتنجح في إجهاض استفتاء مُقتَرَح مناهض لحيازة الأسلحة في البرازيل عام 2005، ذلك أنها بنت تحالفًا مع حركات سياسية يمينية محلية، وبعد مُضي أكثر من عقد، اخترق البرازيلي المثير للمشكلات السياسية جايير بولسونارو هذه الشبكة ذاتها لتساعده في الصعود إلى سدة الرئاسة.

ويُعد المؤتمر العالمي للعائلات، الذي أسسته في البداية منظمات مسيحية تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها عام 1997، الآن شبكة عبر الحدود، يدعمها الأوليجارشيون (الأقلية الحاكمة) الأوراسييون، وتجمع محافظين اجتماعيين بارزين من عشرات البلدان لبناء مقاومة عالمية لمثليي الجنس، ومزدوجي التوجه الجنسي، وللمتحولين جنسيًا، والحقوق الإنجابية.

ووجدت الأنظمة الاستبدادية طرقًا للحد من تأثير شبكات الدفاع الليبرالية عبر الوطنية والمنظمات غير الحكومية ذات الميول الإصلاحية، أو حتى القضاء على هذا التأثير. وأدت ما تُسمى بالثورات الملونة (مصطلح يطلق على الاحتجاجات السلمية والحركات المطلبية أو العصيان المدني في بعض الدول) في عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي في العقد الأول من هذا القرن والربيع العربي في الفترة 2010-2011 في الشرق الأوسط دورًا مهمًا في هذه العملية، إذ أثارا قلق الحكومات الاستبدادية والليبرالية، التي ترى على نحو متزايد أن حماية حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية بمثابة تهديدات محدقة ببقائها.

ردًا على ذلك، قلَّصت هذه الأنظمة تأثير المنظمات غير الحكومية ذات الروابط الأجنبية. وفرضت قيودًا صارمة على تلقي التمويلات الأجنبية، وحظرت العديد من الأنشطة السياسية، ووصفت بعض الناشطين بـ«العملاء الأجانب».

وترعى بعض الحكومات الآن منظمات غير حكومية خاصة بها لكبح الضغوط التحريرية في الداخل، ولمنافسة النظام الليبرالي في الخارج. على سبيل المثال، ردًا على الدعم الغربي للناشطين الشباب أثناء الثورات الملونة، أسس الكرملين مجموعة «Nashi» الشبابية لحشد الشباب في دعم الدولة. ووصَّلَت جمعية الصليب الأحمر الصينية، أقدم منظمة غير حكومية تنظمها الحكومة في الصين، مستلزمات طبية إلى بلدان أوروبية في خضم جائحة كوفيد-19 كجزء من حملة علاقات عامة مُنظَمة بعناية.

كما استخدمت هذه الأنظمة منصات رقمية ووسائل التواصل الاجتماعي لعرقلة التعبئة والدعوة المناهضتين للحكومة. ونشرت روسيا أيضًا هذه الأدوات في الخارج في عملياتها المعلوماتية وتدخلها الانتخابي في الدول الديمقراطية.

بعض القوى التي تقود انهيار النظام الليبرالي نشأت في الولايات المتحدة نفسها

ويستدرك الكاتبان قائلين: تطوران ساعدا في تفاقم المنعطف غير الليبرالي في الغرب: وهما الركود العظيم عام 2008، وأزمة اللاجئين في أوروبا عام 2015. وعلى مدار العقد الماضي، تحدت شبكات غير ليبرالية – على سبيل المثال لا الحصر على اليمين – ترسيخ توافق الآراء داخل الغرب. وشككت بعض المجموعات والشخصيات في مزايا العضوية المستمرة في مؤسسات كبيرة تابعة للنظام الليبرالي، مثل الاتحاد الأوروبي والناتو.

والعديد من الحركات اليمينية في الغرب تتلقى دعمًا ماديًا ومعنويًا من موسكو، التي تدعم عمليات «الأموال المظلمة» (مصطلح يشير إلى الأموال التي تتحصل عليها منظمات غير حكومية لتنفقها بدورها للتأثير على الانتخابات) التي تعزز مصالح القلة القليلة في الولايات المتحدة والأحزاب السياسية اليمينية في أوروبا على أمل إضعاف الحكومات الديمقراطية وكسب حلفاء مستقبليين.

وفي إيطاليا، يُعد حزب رابطة الشمال «Lega» الحزب الأكثر شعبية على الرغم من فضائح محاولته الحصول على دعم مالي غير قانوني من موسكو. وفي فرنسا، يظل حزب التجمع الوطني «National Rally»، الذي لديه أيضًا تاريخ من الدعم الروسي، قوة قوية في السياسات المحلية.

هذه التطورات تعكس الطرق التي ساعدت بها الحركات «النظامية المضادة» في تعجيل تراجع القوى المهيمنة في الماضي. وأدت الشبكات عبر الحدود دورًا حاسمًا في دعم النظم الدولية السابقة وتحديها.

على سبيل المثال، ساعدت الشبكات البروتستانتية في إضعاف القوة الإسبانية في بداية أوروبا الحديثة، لا سيما عبر دعم الثورة الهولندية في القرن السادس عشر. وأدت الحركات الليبرالية والجمهورية، خاصة في سياق الثورات في شتى أنحاء أوروبا عام 1848، دورًا في تقويض «الوفاق الأوروبي» (مصطلح يشير إلى حق الدول العظمى في التدخل وفرض إرادتها الجماعية على الدول التي تواجه تمردًا داخليًا)، الذي حاول إدارة نظام دولي على القارة في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

وساعد نهوض الشبكات عبر الحدود الفاشية والشيوعية في إنتاج نضال على القوة العالمية للحرب العالمية الثانية. وحققت الحركات النظامية المضادة قوة سياسية في بلدان مثل ألمانيا، وإيطاليا، واليابان؛ ما أسفر عن انفصال تلك الدول عن الهياكل القائمة للنظام الدولي أو محاولة الهجوم عليها. ولكن حتى الحركات النظامية المضادة لا تزال بإمكانها تقويض تماسك القوى المهيمنة وحلفائها.

ويوضح التقرير أنه ليست كل حركة غير ليبرالية أو يمينية تعارض النظام الذي تقوده الولايات المتحدة تسعى إلى تحدي القيادة الأمريكية أو أن تتجه إلى روسيا باعتبارها نموذجًا للمحافظة الثقافية.

الحفاظ على النظام الأمريكي

المنافسة على القوة العظمى، وانتهاء احتكار الغرب للمحسوبية، وظهور حركات تعارض النظام الدولي الليبرالي غيرت جميعها النظام العالمي الذي تربعت واشنطن على عرشه منذ انتهاء الحرب الباردة. وفي مناحٍ عديدة، يبدو أن جائحة كوفيد-19 تزيد تفاقم تآكل الهيمنة الأمريكية. فالصين عززت تأثيرها في منظمة الصحة العالمية ومؤسسات عالمية أخرى بعد محاولة إدارة ترامب وقف تمويل الهيئة الصحية العامة واستخدامها ككبش فداء. وتصور بكين وموسكو نفسيهما على أنهما تقدمان بضائع طارئة ومستلزمات طبية، بما في ذلك لبلدان أوروبية مثل إيطاليا، وصربيا، وإسبانيا، وحتى للولايات المتحدة.

وتستخدم الحكومات غير الليبرالية في جميع أنحاء العالم الجائحة كغطاء لتقييد حرية الإعلام وشن حملة على المعارضة السياسية والمجتمع المدني. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بتفوق عسكري، إلا أن هذا البُعد من الهيمنة الأمريكية على وجه الخصوص غير مناسب للتعامل مع هذه الأزمة العالمية وتأثيراتها المتلاحقة.

وحتى إن ظل جوهر نظام الهيمنة الأمريكي – الذي يتكون معظمه من تحالفات آسيوية وأوروبية قديمة، ويستند إلى أعراف ومؤسسات تطورت أثناء الحرب الباردة – قويًا، وحتى إن كانت، كما يشير العديد من أبطال النظام الليبرالي أنه سيحدث، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمكنهما رفع قوتهما الاقتصادية والعسكرية مجتمعتين لصالحهما، فالحقيقة أن واشنطن ستضطر إلى التأقلم على نظام دولي متنازَع ومعقد على نحو متزايد.

ولا يوجد حل سهل لهذه المشكلة. ولن يستطيع حجم الإنفاق العسكري عكس مسار العمليات التي تقود انهيار الهيمنة الأمريكية. وحتى إن أطاح جو بايدن، المرشّح الديمقراطي المحتمَل، بترامب في الانتخابات الرئاسية في وقت لاحق من هذا العام، أو إن تنصل الحزب الجمهوري من نظام ترامب، سيستمر التفكك.

الأسئلة المهمة الآن المثيرة للقلق هي كيف سينتشر الانهيار. ويطرح التقرير سؤالين: هل سينفصل الحلفاء الأساسيين عن نظام الهيمنة الأمريكي؟ وإلى متى، وإلى أي مدى يمكن أن تحافظ الولايات المتحدة على الهيمنة المالية والنقدية؟

يجيب الكاتبان: النتيجة الأكثر مواتاة ستتطلب تنصلًا واضحًا من نظام ترامب في الولايات المتحدة، والتزامًا بإعادة بناء مؤسسات ديمقراطية ليبرالية في قلب البلاد. وعلى كل من الصعيد المحلي والدولي، ستستلزم هذه الجهود تحالفات بين يمين الوسط، ويسار الوسط، وأحزاب وشبكات سياسية تقدمية.

صنَّاع السياسة الأمريكية يجب أن يخططوا للعالم بعد الهيمنة العالمية

ما يمكن أن يقدمه صنَّاع السياسة الأمريكية هو التخطيط للعالم بعد الهيمنة العالمية. فإذا ساعدوا في الحفاظ على جوهر النظام الأمريكي، يمكن أن يتأكد المسؤولون الأمريكيون من أن الولايات المتحدة تقود أقوى تحالف عسكري واقتصادي في عالم تغمره الكثير من مراكز القوة، بدلًا عن أن يجدوا أنفسهم على الجانب الخاسر لمعظم المنافسات حول شكل النظام الدولي الجديد.

تحقيقًا لهذا الهدف، ينبغي أن تعيد الولايات المتحدة تنشيط وزارة الخارجية المُنهكَة والتي تعاني من نقص الموظفين؛ ما يعيد بناء مواردها الدبلوماسية واستخدامها على نحو أكثر فعالية. وسوف تسمح الحوكمة الذكية لقوة عظمى بقيادة دفة عالم تحكمه مصالح متنازَعة وتحالفات متغيِرة.

والولايات المتحدة تفتقر إلى كلٍ من الإرادة والموارد لمجاراة الصين وقوى ناشئة أخرى على نحو مستمر لإخضاع الحكومات. وسيكون من المستحيل تأمين التزام بعض البلدان بالرؤى الأمريكية للنظام الدولي، ذلك أن العديد من تلك الحكومات صارت تنظر إلى النظام الذي تقوده الولايات المتحدة على أنه تهديد لاستقلالهم، إن لم يكن لبقائهم. وتتصدى الآن بعض الحكومات التي لا تزال ترحب بالنظام الليبرالي تحت قيادة الولايات المتحدة لحركات شعبوية وغير ليبرالية أخرى تعارضها.

يختتم كولي ونيكسون، الأستاذان المهتمان بالعلوم السياسية، تقريرهما بالقول: «حتى في أوج اللحظة أحادية القطبية، لم تجرِ الأمور عادة وفق أهواء واشنطن». والآن حتى يحتفظ النموذج السياسي والاقتصادي الأمريكي بجاذبية كبيرة، يجب أن تنظم الولايات المتحدة أولًا شؤونها الداخلية. وسوف تواجه الصين عقبات في إنتاج نظام بديل، وربما تضايق بكين شركاءها وعملاءها بتكتيكاتها الضاغطة واتفاقياتها الغامضة والفاسدة غالبًا.

وينبغي أن يكون جهاز السياسة الخارجية الأمريكية الذي أُعيد تنشيطه قادرًا على ممارسة تأثير كبير على النظام الدولي حتى في غياب الهيمنة العالمية. لكن لتحقيق النجاح يجب أن تعترف واشنطن بأن العالم لم يعد يشبه فترة التسعينات والعقد الأول من هذا القرن، التي كانت بِدْعًا من التاريخ، فاللحظة الأحادية القطبية ولَّت، ولن تعود.

النص الكامل: 
https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2020-06-09/how-hegemony-ends