»

بالرغم من الكلام المعسول.. لماذا تماطل واشنطن في حذف السودان من «قائمة الإرهاب»؟

02 أيار 2020
بالرغم من الكلام المعسول.. لماذا تماطل واشنطن في حذف السودان من «قائمة الإرهاب»؟
بالرغم من الكلام المعسول.. لماذا تماطل واشنطن في حذف السودان من «قائمة الإرهاب»؟

ساسة بوست

سعت السودان على مدار السنوات الماضية لتفعيل قنوات التنسيق مع أمريكا حول الملفات والقضايا المشتركة بغية حذف اسمها من قائمة واشنطون للدول الراعية للإرهاب «قائمة الإرهاب» وما يترتب عليها من عقوبات اقتصادية تحاصر موارد البلد الذي يعيش دومًا في فلك الأزمات الاقتصادية.
ومع سقوط الرئيس السابق عُمر البشير، أحد العقبات الرئيسة للعفو الأمريكي، بالرغم من التنازلات التي قدمها في آخر سنوات حُكمه، ازدادت الآمال في أن تترجم واشنطن تصريحات مسؤوليها الإيجابية حول سودان ما بعد البشير إلى أفعال حقيقية تُنهي سنوات الحصار الأمريكي في ضوء هذا التصنيف. غير أن التصريحات المُبشرة والوعود الأمريكية لم تخرج عن الإطار البروتوكولي، لتصير مسألة حذف السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب أمرًا مجهولًا وقضية شائكة تشترك فيها عوامل عديدة يحاول التقرير التالي تتبعها.
سنوات للوراء .. كيف ولماذا أُدرجت السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب؟
قبل نحو 30 عامًا، وخلال ولاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، كان الوجه الصاعد للسلطة حديثًا عُمر البشير بتدبير انقلاب عسكري، يحاول اكتشاف طرق جديدة لمساومة خصومه، والتجريب في حيل تنجح في إبقائه لأطول فترة ممكنة بأقل المجهودات.
وبعد عامً واحد من تنصيب نفسه رئيسًا للسلطة، و«حارسًا للشريعة الإسلامية»، كما وصف نفسه، استضاف البشير زعيم «تنظيم القاعدة» السابق أسامة بن لادن، ما رآه البعض مكايدةً في أمريكا، التي رفضت الاعتراف بانقلابه على السلطة في عام 1989، ومنحه شرعية دولية.
 عاش ابن لادن خمس سنوات في السودان متمعًا بقدر من حرية التنقل والاجتماعات، وتلقي الأموال من أعوانه، واستثمارها في قطاعات متنوعة داخل مدن السودان، بالتزامن مع توطيد صلاته مع «حزب الله» وحركة «حماس» و«الجماعة الإسلامية» في مصر؛ لتُدرج وزارة الخارجية الأمريكية في 12 أغسطس (آب) 1993 السودان في قائمة الإرهاب.
وفي عام 1996 أوقفت الولايات المتحدة عمل سفارتها في الخرطوم، تبعها قرار في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 1997 من الرئيس بيل كلينتون بفرض عقوبات مالية وتجارية على السودان، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وألزمت الشركات الأمريكية، والمواطنين الأمريكيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان. وجاء في القرار إن «السودان يمثل مصدر تهديدًا لأمن الولايات المتحدة القومي ولسياستها الخارجية».
وساءت العلاقات بعدما شنت الولايات المتحدة عام 1998 هجمات صاروخية ضد مصنع الشفاء للأدوية خارج الخرطوم – والذي كانت أمريكا تعتقد في ذلك الوقت أنه يقوم بتصنيع الأسلحة الكيماوية لاستخدامها من قبل القاعدة وغيرها من الجماعات المسلحة الدولية – ردًا على تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، والتي رأت المحاكم الأمريكية فيما بعد أن الخرطوم متواطئة فيها.
وتناوب رؤساء أمريكا على تمديد العقوبات على السودان في ظل سياسة البشير المناوئة لواشنطن، ليفرض الكونجرس في عام 2006 عقوبات إضافية ضد «الأشخاص المسؤولين عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية» بسبب أعمال القتل والانتهاكات الواسعة في إقليم دارفور غربي السودان، وأصدر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن قرارًا بالحجز على أموال 133 شركة وشخصية سودانية في نفس العام.
ومع سعى البشير للتعاون مع واشنطن عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، وتأدية دور هام في تسليم كثير من قادة تنظيم القاعدة، حدثت بعض الانفراجات عبر الرفع الجزئي للعقوبات لشهور معدودة ثم العودة من جديد لتمديدها كما حدث في ولايتي الرئيس الأمريكي باراك أوباما وخليفته دونالد ترامب في بداية فترته الرئاسية الذي جدد قرار رفع العقوبات في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2017.
وامتدت مساعي البشير لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، بمحاولة توظيف توقيعه على اتفاقية السلام الشامل مع جنوب السودان بحضور وزير الخارجية الأمريكي كولين باول، في أوائل عام 2015، وذلك من خلال تكليف صلاح قوش، رئيس الاستخبارات آنذاك بالسفر لواشنطن بطائرة خاصر لإجراء مشاورات مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، لحذف بلاده من قائمة الإرهاب.
غير أن تصعيد البشير في الوقت ذاته من القتال في منطقة دارفور بغرب البلاد إلى حد الإبادة الجماعية أفشل هذه الخطة، وزاد الضغوط على الخرطوم من جديد، وفشلت بعد ذلك محاولاته والتنازلات التي قدمها كالسماح لجنوب السودان بالمضي قدما في استفتاء الاستقلال لعام 2011 وتنفيذ نتائج هذا التصويت خالية من التدخل السوداني؛ إزالة القيود على عمليات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في دارفور، وتحسين وصول المساعدات الإنسانية الدولية بشكل كبير إلى المناطق المتضررة من الحرب في جميع أنحاء البلاد
إلى أن ثار مئات الآلاف من السودانيين في انتفاضة شعبية أسقطت حُكم البشير، ليبدأ فصل جديد في العلاقة بين واشنطن والخرطوم، استرضت فيها الأخيرة الإدارة الأمريكية بسلسلة إجراءات جديدة لدفع البيت الأبيض لإلغاء العقوبات بشكل كامل، وحذف اسم السودان من قوائم الإرهاب.
رئيس وزراء مدني وعلاقات مع إسرائيل ليس كافيًا  
عقب الإطاحة بالرئيس السابق عُمر البشير، سعت الخرطوم للمضي قدمًا في  التجاوب مع  شروط واشنطن لحذف اسمها من قائمة الإرهاب وإلغاء العقوبات الاقتصادية، آملة أن تتجاوب أمريكا، وتخفف من القيود المفروضة عليها إثر هذا التصنيف.
من بين هذه الاشتراطات التي نفذتها الخرطوم تجاوبًا مع الرغبة الأمريكية هي مواقفة الأخيرة الخاص بدفع تعويضات، بقيمة 30 مليون دولار، لعائلات 17 بحارًا أمريكيًا قتلوا عندما استهدف تنظيم القاعدة سفينتهم، المدمرة «يو إس إس كول»، بميناء في اليمن عام 2000.
 تلى تجاوب الخرطوم مع تعويض العائلات خطوة جديدة هي موافقة الحكومة الجديدة على مثول البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية، الذي يواجه اتهامات بالإبادة الجماعية وجرائم حرب متهم بارتكابها في إقليم دارفور، غير أن الموافقة لم ترق للتعهد بتسليمه.
وتبع كلتا الخطوتين اتباع الخرطوم سياسة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل توجت بلقاء جمع رئيس المجلس العسكري السوداني عبد الفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وترحيب الأول بعودة العلاقات مع تل أبيب، والإعلان بالسماح للطائرات الإسرائيلية باستخدام المجال الجوي للسودان.
كان العامل الأهم في تجاوب الخرطوم مع واشنطن هو الدفع بعبد الله حمدوك، السوداني الوافد من منظمة دولية كالأمم المتحدة على رأس حكومة ما بعد البشير؛ ليكون هو الشخص المسؤول عن فتح ملف العقوبات مع واشنطن. أمام تجاوب الخرطوم في القضايا السابقة، أعلنت واشنطن، في الثالث من مارس (أذار) عام 2020،  إنهاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، وعلى 157 مؤسسة سودانية، بينما أبقت اسمها على قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ولبقاء السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب أسباب تتصل بشبكة متشابكة من العمليات التشريعية، والأحكام القانونية، والتسويات المالية، وتقييمات الاستخبارات، والأهم من ذلك كله، التقديرات السياسية لمجموعة صناعة القرار في واشنطن.
وتتمثل التعقيدات التشريعية في إقرار الرئيس الأمريكي أولًا بأحقية السودان في الإلغاء من القائمة بعدها تنتقل القضية للكونجرس، للبت فيها، إذ يخول له مراجعة قرار الشطب لنحو 45 يومٍ حتى يصدر تقديره النهائي، تظهر صعوبات مالية في ظل وضع اقتصاد السودان المتدهور.
وفي بعض الحالات، يتجاوز الكونجرس عن النظر بحجة عدم تعطيل القرار، وذلك كحال ليبيا التي شُطب اسمها من القائمة بعد ثمانية سنوات من التعهدات والقرارات التي نفذها رئيسها معمر القذافي أبرزها تسليم اثنين من مواطنيه لدورهم في تفجير طائرة لوكيربي، ودفع التعويضات المالية لضحايا الطائرة، وقطع التمويل وإغلاق معسكرات تدريب المسلحين على أراضيه؛ وأخيرًا تسليم برنامج أسلحة الدمار الشامل بكامله إلى مفتشي الأمم المتحدة.
على رأس هذه الصعوبات تعويضات أخرى لاتستطيع السودان دفعها تصل لنحو  500 مليون دولار، وهي أقل مبلغ متوقع ستحكم به المحكمة كتعويض لأهالي ضحايا حادث تفجيرات السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، والتي وجدت المحاكم الأمريكية فيما بعد أن الخرطوم متواطئة مع منفذيها.
يُضاف للعوامل السابقة تشكك الإدارة الأمريكية من احتمالية انقلاب الجيش على السلطة، وقد عزز من هذه الشكوك محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني.
وعود تتكرر بلا فعل.. متى تعفو واشنطن عن السودان؟
تقف المحددات السابقة كأسباب رئيسة وراء تأخر صدور قرار أمريكي برفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ليصبح التساؤل الهام والمُلح في الأوساط السودانية هو الموعد المُحدد لعفو واشنطن عن السودان.
من جانبه يقول عبد الفتاح عرمان الصحافي السوداني المُقيم في واشنطن في اتصال هاتفي مع «ساسة بوست»: إن العقوبات الاقتصادية جرى رفعها، ولكن العقبة هي شطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، موضحًا أن العقوبات الاقتصادية كانت مفروضة على الاستيراد والتصدير وبسببها لم يستطع السودان استيراد قطاع غيار لطائرات الناقل الوطني.
 وأضاف عرمان أن وجود اسم السودان على قائمة الإرهاب يجعل النظام المصرفي السوداني غير قادر على التعاون مع الأنظمة المالية الدولية أو رفع ديونها أو الحصول على قرض من البنك الدولي بسبب وجود اسمه على لائحة الدول التي تدعم الإرهاب.
ويشرح عرمان أسباب عدم رفع اسم السودان حتى الآن من قائمة الإرهاب، قائلًا: إن تصريحات المسئولين الأمريكيين تفيد بأنها عملية معقدة وطويلة تتعلق بعدة جوانب من بينها الوصول الى تسوية مع أسر ضحايا المدمرة كول وتفجير سفارتي واشنطن في دار السلام ونيروبي التي اتهم النظام البائد بالوقوف خلفهما، والوصول إلى اتفاق سلام في مناطق النزاع. تم تسوية قضية المدمرة كول مع أسر الضحايا والتزام السودان بدفع تعويضات لأسر الضحايا وتبقت قضيتا السفارتين وتحقيق السلام.
ويؤكد عرمان نقلًا عن أحاديث مع مسؤولين أمريكيين أن الجانب الأمريكي يتخوف أنه في حالة رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب ربما تحدث انتكاسة في الأوضاع في السودان في ظل سيطرة المكون العسكري على معظم المشهد في البلاد. لذا، يريدون استخدام ورق الضغط هذا لحين الاطمئنان لانتقال البلاد من الفترة الانتقالية إلى حكومة مدنية منتخبة من قبل الشعب السوداني.
ويتابع عرمان أن الجميع مُدرك أن عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء القادم من خلفية مدنية، سيساعد وسعى لرفع إسم السودان، لكنه يستدرك قائلًا، ولكن كلنا يعرف أن المكون العسكري مسيطر على المشهد السياسي بدرجة كبيرة ولا زال ممسكًا بكل الشركات المنتجة بما فيها منظومة الخدمات الدفاعية وغيرها دون أدني رقابة عليها من وزارة المالية، وهذا ما يقلق واشنطن، فحمدوك ليس لديه ولاية على كل المنظومة الأمنية؛ جيش، وشرطة، وأمن. شكليًا مسيطر على وزارة الداخلية، ولكن عمليًا هي في يد المكون العسكري في مجلس السيادة، بحسب عرمان.
ويُكمل أن تحسين العلاقات سيسهم إيجابًا في رفع اسم السودان، ولكن ما لم تطمئن واشنطن إلى عدم عودة الأمور المربع الأول فلن يتم ذلك. أما حامد التيجاني، أستاذ السياسات العامة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو سوداني الجنسية، فيوضح في اتصال هاتفي مع «ساسة بوست» أن هناك شرطين أساسين لدفع أمريكا لرفع إسم السودان من قائمة الإرهاب مرتبطة بإحداث تغيير في السياسة الأمريكية؛ إنجاز ملف السلام، خاصة في دارفور التي شهدت عدة مجازر، وتسليم البشير إلى الجنائية الدولية، ومن دون ذلك جميع المحاولات الدبلوماسية لرفع اسم السودان لن تلقى صدى.
ويُضيف التيجاني الذي التقي قبل ذلك المبعوث الأمريكي للسودان في واشنطن قبل عام، أن هناك مجموعة مؤثرة داخل صناعة القرار في واشنطن ترى أن إزالة تسمية الإرهاب قرب نهاية الفترة الانتقالية في عام 2022 هو الخيار الأفضل لما سيكون ذلك من أثر على خلق الحافز لاستمرار الإصلاحات، ووسيلة للجم نفوذ القوات العسكرية والأمنية ووضعها تحت السيطرة خلال هذه الفترة، إذ إن هذا التأخير سيجعل واشنطن تشتري الوقت لبناء ثقة السلطات الأمريكية في أن الجهات العسكرية لم تعد تشكل تهديدًا للسودان الجديد.