»

«واشنطن بوست»: كيف تتلاعب «خرائط جوجل» بحدود العالم؟

18 شباط 2020
«واشنطن بوست»: كيف تتلاعب «خرائط جوجل» بحدود العالم؟
«واشنطن بوست»: كيف تتلاعب «خرائط جوجل» بحدود العالم؟

ساسة بوست

قال جريج بنسنجر في مقال له في صحيفة «واشنطن بوست» إن نزاعًا مميتًا يستعر منذ أكثر من 70 عامًا بين الهند وباكستان؛ للسيطرة على منطقة كشمير الجبلية. ولقي عشرات الآلاف حتفهم في الصراع، من بينهم ثلاثة الشهر الجاري فقط.
وأوضح بنسنجر أن كلا الجانبين يزعم امتلاكه الإقليم، لكن متصفحي الإنترنت في الهند معذورون؛ لأنهم يعتقدون أن النزاع قد جرت تسويته؛ إذ تظهر خرائط جوجل أن كشمير تحت السيطرة الهندية تمامًا. وفي أماكن أخرى، يرى المستخدمون حدود المنطقة خطًّا منقطًا، مما يعد إقرارًا بالنزاع.
تتمثل مهمة شركة جوجل في تنظيم معلومات العالم، ولكنها أيضًا ترتبط بسياساتها. فمن الأرجنتين إلى المملكة المتحدة إلى إيران، تبدو حدود العالم مختلفة حسب المكان الذي تشاهده منها. ذلك لأن جوجل – وغيرها من صانعي الخرائط على الإنترنت – يعدلونها، بهذه البساطة.
يستحوذ تطبيق خرائط جوجل على حوالي 80% من حصة السوق في الأجهزة المحمولة وأكثر من مليار مستخدم، ليكون ذا تأثير كبير على تصورات الناس حول العالم – من اتجاهات الطرق، إلى مراجعات المطاعم، إلى تحديد معالم الجذب السياحي، إلى حروب الحدود التاريخية.
غالبًا ما يكتنف صنع القرار في جوجل بشأن الخرائط بسرية تامة – يشير بنسنجر – حتى بالنسبة لأولئك الذين يعملون على تشكيل الأطالس الرقمية كل يوم. لا يتأثر هذا فقط بالتاريخ والقوانين المحلية، بل يتأثر أيضًا بنزوات الدبلوماسيين وواضعي السياسات، ومديري الشركة التنفيذيين، مثلما يقول أشخاص مطلعون على الأمر، الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم؛ لأنهم غير مخولين لمناقشة العمليات الداخلية.
قال إيثان راسل، مدير إدارة المنتجات في خرائط جوجل، في بيان أرسله باسم ويني كينج: «إن هدفنا دائمًا هو توفير خريطة أكثر شمولًا ودقّة ممكنة استنادًا إلى الحقيقة الأساسية. نحن محايدون بشأن قضايا المناطق والحدود المتنازع عليها، ونبذل قصارى جهدنا لعرض النزاع عرضًا موضوعيًّا في خرائطنا باستخدام خط رمادي متقطع. أما في البلدان التي لدينا فيها إصدارات محلية من خرائط جوجل، نتبع التشريعات المحلية عند عرض الأسماء والحدود».
أصبحت خرائط جوجل الآن، بعد 15 عامًا من إصدارها، واحدة من أكثر المنتجات استخدامًا على محرك البحث العملاق – ينوه بنسنجر. إذ تعد الخرائط من المنتجات الكبرى التي ستجني حوالي 3.6 مليار دولار من المبيعات السنوية بحلول العام المقبل، وذلك أساسًا من خلال الإعلانات.
وتمنح جوجل أيضًا تراخيص لخرائطها لأي عدد من الشركات القائمة على الإنترنت، مثل أوبر وييلب، مما يوسع رؤيتها الخاصة للعالم ليشمل المزيد من الأشخاص. ونظرًا إلى أن جوجل تطور خرائطها بمزيد من المعلومات، فإن التغييرات الطفيفة يمكن أن تغير حياة الناس اليومية. يمكن أن تسبب خوارزميات البرامج التي تعيد توجيه السائقين بعيدًا عن الطرق السريعة اختناقات مرورية في الأحياء السكنية، أو تدفع حركة المرور المرغوبة بعيدًا عن تجار التجزئة.
تُعد خرائط أبل ثاني أكثر التطبيقات شعبية بين مستخدمي الأجهزة المحمولة، بحوالي 10- 12% من السوق. في حين تتحكم خرائط بينج، وهي قسم من مايكروسوفت، في شريحة صغيرة من سوق الخرائط عبر الإنترنت.
وقالت جاكلين روي، المتحدثة باسم شركة «آبل»، إن الشركة تستجيب للقوانين المحلية فيما يتعلق بوضع العلامات على الحدود والمكان. وأوضحت أنه: «نحن نلقي نظرة أعمق إلى كيفية تعاملنا مع الحدود المتنازع عليها في خدماتنا، وقد نجري تغييرات في المستقبل نتيجة لذلك». وتعتمد مايكروسوفت على محكمة العدل الدولية، أو الأمم المتحدة، أو الأكاديميين كمرجعية فيما يتعلق بالحدود، أو تشير إلى أن الحدود موضع خلاف، وفقًا لسياسة رسم الخرائط الخاصة بها.
الخرائط المطبوعة أكثر مصداقية
ينقل بنسنجر عن أليكس تايت، عالم الجغرافيا بالجمعية الجغرافية الوطنية، قوله إنه في العالم الأكثر حصافة للخرائط المطبوعة، التي تُراجع كل ثلاثة أشهر على الأكثر، يجتمع مجلس رسامي الخرائط والمحررين والموظفين بانتظام لمناقشة الأحداث العالمية، والنظر في التعديلات المقترحة. وأضاف أنهم قد يستشيرون الدبلوماسيين والهيئات مثل الأمم المتحدة، والمخططات التاريخية، ورسامي الخرائط المنافسين، قبل التوصل إلى توافق في الآراء بشأن أي تغيير ذي معنى.
الفرق المهم هو أن الخرائط المطبوعة قد تحتوي على نصوص وصور أخرى للسياق، التي قد تربك متصفح الخرائط على الإنترنت. وقال تايت: «لدينا طريقة واقعية للتعامل مع القضايا. إذ نحاول إظهار أكبر قدر ممكن من المعلومات لمساعدة الناس على فهم ما يجري في جزء من العالم. إنه جزء من خلفيتنا الصحفية. نريد أن نظهر ما هو الوضع، على أرض الواقع، بأفضل ما في وسعنا بعد أن قمنا بالكثير من الأبحاث».
أنشئت خرائط جوجل عبر مجموعة من صور الأقمار الصناعية، ونماذج الكمبيوتر، والحدود والمعالم المرسومة يدويًّا، وفقًا للشركة. وهي تعتمد بشكل أساسي على العمال المتعاقدين المتخصصين في تتبع إنشاء المباني أو الطرق الجديدة.
على عكس رسم الخرائط الجغرافية – يقول بنسنجر – فإن رسم معالم البلدان هو في النهاية عمل بشري. لذلك تتشاور جوجل مع الحكومات المحلية والهيئات الرسمية الأخرى للمساعدة في اتخاذ قرار بشأن مكان رسم الحدود، وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر. وهي تستند إلى الخرائط التاريخية والأحداث والأخبار والأطالس. ولكن تُجرى تغييرات أيضًا سرًّا وبشكل فوري، في حين تبقى الخرائط المادية رهينة لتوقيت الطباعة.
عندما يتعلق الأمر بالحدود المتنازع عليها، غالبًا ما يرى الناس في بلدان مختلفة أشياء مختلفة. على سبيل المثال، يُعرف المسطح المائي بين اليابان وشبه الجزيرة الكورية باسم بحر اليابان، ولكن بالنسبة لمستخدمي خرائط جوجل في كوريا الجنوبية، فهو مدرج باسم البحر الشرقي. وعلى بعد أكثر من 4 آلاف ميل، قد يكون الممر المائي الذي يفصل إيران عن السعودية إما الخليج الفارسي أو الخليج العربي، اعتمادًا على من يبحث على الإنترنت. والخط في الصحراء الغربية الذي يمثل الحدود الشمالية مع المغرب يختفي بالنسبة للمغاربة الذين يبحثون عنه على شبكة الإنترنت – إلى
جانب اسم المنطقة بالكامل. وهي منطقة يتنازع عليها المغرب وجبهة البوليساريو.
يمكن لمستخدمي خرائط جوجل داخل تركيا العثور على جمهورية قبرص التركية، الممثلة في الثلث الشمالي من الجزيرة المتوسطية. لكن الإقليم غير معترف به من الأمم المتحدة، ولا منافسي خرائط جوجل.
في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد الشهر الماضي في دافوس بسويسرا – ينوه بنسنجر – دعا رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان الأمم المتحدة للتوسط في النزاع المتصاعد مع الهند، وعرض الرئيس ترامب التدخل. وأثارت تعليقات مسؤول قبرصي تحبذ توحيد الجزيرة الإدانة السريعة للمسؤولين الأتراك.
وقالت إليزابيث سيدانو، أستاذة العلوم المكانية في جامعة جنوب كاليفورنيا: «حدود البلدان سياسية بطبيعتها، لكن قد يتفاجأ بعض الأمريكيين عندما يعرفون أن جوجل ترضي الحكومات الاستبدادية على خرائطها».
من جانبه، قال أحد موظفي جوجل – فضَّل عدم الكشف عن هويته – المتعاقدين الذين عملوا على إصلاح أو تعديل المشكلات المتعلقة بخرائطها إنه عمل لأسابيع لرسم الحدود وإعادة رسمها، لا سيما على طول نهر الأمازون، استجابةً للمسؤولين بشأن المخاوف البحرية والحدود المتغيرة باستمرار للممر المائي. وقال إن: «الأنهار والغابات غير المأهولة صعبة الرسم لأنه لا توجد معالم يمكن الاعتماد عليها».
تغييرات حسب المزاج السياسي
وكشف موظفون في جوجل أنه غالبًا ما يُطلب منهم تغيير الخرائط دون سبب معين، وأن تغييراتهم تصبح نافذة المفعول على الفور تقريبًا – يقول بنسنجر. ويتضمن ذلك عادةً تعديلات بسيطة مثل توسيع المسار في الحديقة، أو إزالة إشارة والمعالم مثل التمثال أو دائرة المرور. وأكدوا أن لدى جوجل فريق خاص باسم «فريق المنطقة المتنازع عليه» الذي يعالج المزيد من المسائل الشائكة، مثل كيفية تصوير جزر فوكلاند، التي جرى التنازع على ملكيتها بين المملكة المتحدة والأرجنتين منذ استقلال الأخيرة.
قال راسل في بيانه إن: «هدف الشركة هو تقديم خريطة شاملة ودقيقة قدر الإمكان تستند إلى الحقيقة الأساسية». تأخذ الشركة الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية والوكالات الحكومية الأخرى مرجعًا لها، ويشارك المديرون التنفيذيون فيها في المؤتمرات جزءًا من جهودها.
أضاف البيان «ما زلنا محايدين بشأن النزاعات الجيوسياسية ونبذل كل جهد ممكن لعرض المناطق المتنازع عليها بموضوعية. وفي البلدان التي لدينا فيها إصدارات محلية من خرائط جوجل، نتبع التشريعات المحلية عند عرض الأسماء والحدود».
تستجيب الشركة أيضًا للتعليقات – يؤكد بنسنجر – مثل تغيير اسم أراضي القبائل الأمريكية الأصلية إلى «أمة» بدلًا من «حجز»، وفقًا لشخص مشارك في تلك المناقشات. وتخضع خرائط جوجل للمراجعة بواسطة مجموعة من المتحمسين، المعروفين باسم المرشدين المحليين الذين يقدمون
اقتراحات لإجراء تعديلات، والتي تُنفذ غالبًا تلقائيًّا. قام قراصنة خلال انتخابات عام 2016 بخداع برنامج جوجل لإعادة تسمية منزل الرئيس ترامب المنتخب آنذاك في مانهاتن من Trump Tower إلى Dump Tower أو «برج النفايات» قبل إصلاح الخطأ.
في بعض الحالات، تملي القوانين المحلية كيف يجب أن تمثل جوجل وغيرها الخرائط لتفادي اللوم، كما هو الحال في الصين أو روسيا، وفقًا لأشخاص مطلعين على الأمر.
الحكومات الاستبدادية تملي شروطها
قال مسؤول تنفيذي سابق في خرائط بينج، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، إن الصين وكوريا الجنوبية ودولًا أخرى تصدر توجيهات رسمية بشأن كيفية عرض الخرائط، ويواجه رسامو الخرائط عقوبات لعدم اتباع الإرشادات. وأوضح أنه: «بالنسبة للصين، هناك عملية رقابة صارمة، إذ يجري فحص تفاصيل المناطق الحساسة عن كثب».
حظرت الصين جوجل فعليًّا من البر الرئيسي – يواصل بنسنجر كلامه – لكن الشركة تنشط في هونج كونج وماكاو.
يوثق العديد من عشاق الخرائط التغييرات الكبيرة والصغيرة على خرائط جوجل وآبل ومايكروسوفت Bing. وتشمل النتائج التي توصلوا إليها فقدان ما يقرب من 40 ميلًا من الحدود بين تشيلي والأرجنتين، والتقاطع المعروف باسم فور كورنرز في أمريكا، حيث تلتقي ولايات يوتا، وكولورادو، ونيو مكسيكو، وأريزونا.
أوضحت جوجل كيف تطبق سياسات شركات رسم الخرائط بالقول إن الحدود المفقودة بين تشيلي والأرجنتين سببها أن البلدين لم يتفقا على مكان رسم الخط، لذلك تبقى فارغة. ولكن تعرض كل من آبل ومايكروسوفت حدًّا منقطًا هناك.
لكن جوجل ليست محايدة في ما يتعلق بالنزاعات الحدودية – يستدرك بنسنجر. على سبيل المثال، عرض الحدود بين أوكرانيا وروسيا. في روسيا، تظهر شبه جزيرة القرم ضمن السيطرة الروسية، في حين يرى الأوكرانيون وغيرهم حدودًا منقطة. تطالب الدولتان بشبه الجزيرة من الناحية الاستراتيجية، واستولت عليها روسيا بالقوة في عام 2014.
تحت ضغط واضح من موسكو، قامت آبل بمراجعة خرائطها في أواخر العام الماضي لإظهار شبه جزيرة القرم كإقليم روسي عند عرض الخرائط من داخل روسيا. أثار هذا التغيير غضب المسؤولين الأوروبيين الذين أدانوا ضم روسيا لشبه الجزيرة.
وقال أوليكسي ماييف، المدير السياسي لوزارة الخارجية الأوكرانية في مقابلة: «للأسف، هذا يضفي الشرعية على الاحتلال غير القانوني لشبه جزيرة القرم من قبل الاتحاد الروسي. يجب على آبل وغيرها أن تخبر العالم بأنها مدعوة لإجراء التغييرات وإدانتها. بخلاف ذلك، فإنهم يدمرون صورتهم بشدة في أوكرانيا».
منذ ما يقرب من أربع سنوات – يؤكد بنسنجر – أدانت مجموعة من الصحافيين الفلسطينيين ما اعتقدوا خطأً أنه مسح جوجل للأراضي الفلسطينية من خريطتها. ولكن الحقيقة هي أن جوجل قد حددت لسنوات المنطقة المتنازع عليها، ولم تسمها على خرائطها.
ومن خلال وضع جزء من الحدود بين كوستاريكا ونيكاراجوا في مكان خاطئ، نقلت جوجل فعليًّا السيطرة على جزيرة من بلد إلى آخر، وجرى الاستشهاد بها كمبرر لتحركات القوات في المنطقة في عام 2010. ولكن سرعان ما أصلحت جوجل الخطأ قبل اشتعال أي حرب.