»

المعركة الإعلامية

19 تشرين ثاني 2019
المعركة الإعلامية
المعركة الإعلامية

بقلم: راغدة عسيران

يعتبر الإعلام أحد ساحات الصراع العربي الصهيوني، وخاصة خلال المعارك التي تندلع بين المقاومة وكيان العدو، بسبب تأثيره على معنويات الشعوب والمجتمعات الحاضنة للمقاومة من جهة، وللعدوان الصهيوني من جهة أخرى. إذ تشكّل المعنويات عنصرا مؤثرا على المدى المنظور والبعيد في تشكيل الوعي الجماعي لتلك الشعوب والمجتمعات.
يتكوّن هذا الإعلام من الأخبار عن سير العمليات القتالية، ومن التصريحات المواكبة لها والتحليلات والوجدانيات، ومن الصور والمشاهد التي تبثها الفضائيات بكافة اللغات، ووسائل التواصل الاجتماعي المتعددة التي دخلت بقوة على المشهد الإعلامي منذ بضع سنوات.
ومن خلال العدوان الصهيوني الأخير على قطاع غزة وردّ المقاومة الفلسطينية المتمثلة أساسا بـ"سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، بقوة وشجاعة واقتدار، يمكن تحديد أهم سمات المعركة الإعلامية بين المقاومة وكيان العدو واستنتاج منها بعض الملاحظات.
بشكل عام، تدور المعركة الإعلامية بين الأجهزة الإعلامية الصهيونية، في الكيان والعالم، وبين المؤسسات الإعلامية التي شكّلتها المقاومة وما يدور حولها. ما يعني أنه في الساحة الإعلامية، تقف أجهزة ضخمة مموّلة عالميا ومدعومة من الدول الغربية كافة، اضافة الى الشركات الإعلامية العالمية وجيش من المحررين والمحللين وشركات التواصل، والإعلام العربي المأجور التابع للولايات المتحدة وللعواصم الأوروبية، بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل مؤسسات إعلامية متواضعة نسبيا، تتراوح بين الإعلام الحربي للمقاومة وأدواته المتطورة، وبعض الفضائيات الناطقة باللغة العربية عموما، والصحف والمواقع الإلكترونية (العربية عموما) وصفحات التواصل التي حُجب العديد منها، قبل المواجهة الأخيرة وخلالها، كون الشركات والجهات المتحكمة بقرار مؤسسات التواصل الاجتماعي، موالية للكيان الصهيوني.
ما يعني أن المعركة الإعلامية تدور بين من يملك المال والامكانيات والتقنيات الأكثر تقدما في العالم وبين مؤسسات قائمة على ايمانها بخط المقاومة وجماهيرها المتمسكة بفلسطين، والتي تستطيع أحيانا، بسبب قوة انتمائها للحق وصدقها، اختراق الإعلام المعادي المنتمي للعدوان والباطل.
يتميّز الإعلام الصهيوني بقدرته على إخفاء المعلومات، كونه تابع للأجهزة الأمنية لكيان العدو، التي تحظر عادة على إعلامها بث الأخبار التي تمسّها أو تمسّ جمهورها ومعنوياته، كما أنه يتميّز بكونه أحد أجهزة الكيان الاستيطاني، يدعم المؤسسات والأجهزة الأخرى ويروّج لعنفها وعنصريتها وعدائها للشعب الفلسطيني ومقاومته، ولشعوب العالم التي ترفض عدوانه. فهو لذلك يختلق الأكاذيب ويروّج للأخبار المشبوهة لإثارة البلبلة والشك لدى أعدائه، ويفسّر الأمور والمعطيات وفقا لعقيدته الصهيونية، باعتبار المقاومة "إرهاب" والمقاومين "إرهابيين"، وفلسطين "أرض إسرائيل"، وأن الكيان يدافع عن نفسه (عن الاستعمار الاستيطاني على أنقاض الشعب الفلسطيني)، وأنه يحق له القتل والسرقة والاعتداء. وما الاختلافات فيما بين الوسائل الإعلامية الصهيونية أحيانا سوى تصفية حسابات في الصراعات الداخلية، حيث يتم فضح المستور لتوظيفه في هذه الصراعات وليس، كما يظن البعض، بسبب "ديمقراطيته".
انطلاقا من هذا المبدأ، تعامل الإعلام الصهيوني وملحقاته الدولية والعربية مع معركة "صيحة الفجر" بالاسلوب التالي:
لقد أخفى فشله الاستخباراتي في عملية الإغتيال بدمشق وتنكّر لهذه المحاولة، بسبب فشله، كما أكّد القائد زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي.
لقد أخفى على جمهوره وعلى العالم تأثير ضربات "سرايا القدس" على تجمعاته السكنية في فلسطين المحتلة، لمنع انهيار معنوياته والتقليل من أهمية أداء المقاومة. لقد صرّح ابو حمزة، الناطق باسم "سرايا القدس"، في اليوم الثاني من العدوان "أن العدو يفرض رقابة شديدة جداً على الواقع حتى لا يؤدي ذلك إلى خروج المستوطنين في مسيرات ضد نتنياهو ووزير حربه وتحول انتصارهم المزعوم ووهمهم الزائف إلى هزيمة ساحقة"، وتحدى الرقابة العسكرية الصهيونية بالكشف عن حجم الخسائر والدمار الذي لحق بالمصانع والمدن المحتلة، وأسماء وصور "القواعد العسكرية والاستراتيجية التي وصلت اليها نيران وحداتنا الصاروخية".
برّر العدو عدوانه واغتيال القائد الشهيد بهاء أبو العطا باختراع اسطورة روّج لها قبل أسابيع من العملية الجبانة أراد منها القول أن الشهيد بهاء أبو العطا يعمل وحيدا على تعطيل "التفاهمات" بين الكيان وقطاع غزة، وأنه كان يحضّر لعملية أمنية كبيرة ضد الكيان، وذلك للتهرب من مسؤولية العدو في قتل وإصابة الآلاف خلال مسيرات العودة، ونقضه المستمر "للتفاهمات" التي وافق عليها سابقا.
حاول عزل "حركة الجهاد الإسلامي" و"سرايا القدس" عن الشعب الفلسطيني وبقية الفصائل المقاومة، ورغم
التصريحات الكثيرة المؤيدة لمعركة "صيحة الفجر" وإدانة العدوان الصهيوني، شعبيا وسياسيا ورسميا، واصل الإعلام الصهيوني وملحقاته عمليته الخبيثة، من خلال تحميل مسؤولية الدمار والقتل في قطاع غزة للمقاومة و"سرايا القدس" تحديدا.
نفى الإعلام الصهيوني موافقة العدو على شروط حركة الجهاد الإسلامي لإنهاء عدوانه، وتبجّح بأن الحركة هي من طلبت وقف اطلاق النار بسبب "قوة الردع" الصهيونية وخسائر الحركة الكبيرة، وارتباكها بعد إغتيال الشهيد بهاء أبو العطا الذي عطّل "التحكّم بالتنظيم" (رون بن شاي في ينت، 14/11)، من أجل تبرير أي اعتداء مستقبلي على الفلسطينيين. ولكن، من المعروف سلفا أن الكيان لم يتقيّد منذ وجوده بأي اتفاق ويتنظر الوقت المناسب لشنّ هجوم ومعاودة سياسة الاغتيالات.
في المقابل، ورغم الامكانيات المتواضعة وحجب صفحات فلسطينية مؤيدة للمقاومة عن الواتساب والفيسبوك وتويتر، استطاع إعلام المقاومة رسم صورة صادقة لمعركة "صيحة الفجر"، من خلال الأخبار والمراسلين المتواجدين في الميدان، والبيانات الصادرة عن "سرايا القدس"، والتصريحات المتتالية لقادة الحركة والمقابلات معها، لا سيما المقابلة المركزية التي أُجريت مع الأمين العام القائد زياد النخالة في اليوم الثاني من العدوان.
ركّز إعلام المقاومة ليس فقط على أحقية الردّ على العدوان، بل على أحقيّة المقاومة في مقاتلة العدو المغتصب الذي شرّد الشعب الفلسطيني، كما ركّز على وحدة الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة، رغم عدم مشاركة بعض القوى في المعركة، كون أن الصراع قائم أساسا بين الشعب الفلسطيني (والشعوب العربية والاسلامية) بكل فئاته وأحزابه وتياراته، وبين الكيان الصهيوني. وبيّن إعلام المقاومة أن الحاضنة الشعبية للمقاومة، ولـ"سرايا القدس" تحديدا، واسعة، وأن المقاومة هي من الشعب ومن أجل حماية الشعب، وكما صرّح القائد زياد النخالة، لقد بدأت الأمور تتدحرج بين العدو والمقاومة منذ أن اتخذت قيادة الحركة قرار حماية مسيرات العودة بالردّ على الاعتداءات المتكرّرة عليها، منذ انطلاقتها. قدّم إعلام المقاومة تفسيرا مقنعا لأسباب العدوان الصهيوني، التي تعود الى صراعات القيادة الصهيونية الداخلية، حيث أراد نتنياهو التخلّص من مأزقه عبر الاستثمار بالدم الفلسطيني، كما هي عادة قادة الكيان، خلال معاركهم الانتخابية وحياتهم السياسية.
بالنسبة لمعركة "صيحة الفجر"، أعلنت "سرايا القدس" عن استهدافاتها البعيدة والقريبة، والأسلحة التي استخدمتها، وأظهرت الصور و"الفيديوهات" لعملية إطلاق الصواريخ والقذائف، وأصدرت البيانات حول استشهاد مقاتليها في الميدان، كما وضّح الإعلام المقاوم صورة التفاف أهل غزة وفلسطين عموما وكذلك اللاجئين حول المقاومة وضرباتها للعدو. اضافة الى صور تشييع الشهيد بهاء أبو العطا وشهداء المقاومة في قطاع غزة، عرضت مدى التفاف الجماهير في سوريا حول المقاومة، من خلال تشييع الشهيدين معاذ العجوري وعبدالله يوسف حسن.
أكدّت المقاومة، من ناحية أخرى، أن صراعها مع المحتل تاريخي، وأن المعركة معه مفتوحة، وأن حركة الجهاد هي أصلا حركة وجدت لمقاتلة العدو، قدّمت وستقدّم الشهداء تلو الشهداء في مسيرتها التي لن تنته قبل زوال الكيان، وأن "صيحة الفجر" ليست سوى جولة من جولات هذه الحرب المفتوحة. بالتأكيد على هذه الأمور، أرادت الحركة، وإعلامها، استنهاض الشعب الفلسطيني لمواجهة العدو الغاصب والقاتل، وايقاظ الشعوب العربية واستنهاضها لدعم من يقاتل العدو المركزي للأمة والالتفاف حوله.
فضح إعلام المقاومة هشاشة الكيان الصهيوني، وتخبطه إزاء مواجهة المقاومة، وخسائره التي سكت عنها لمنع انهيار جمهوره، كما بيّن انجازات المقاومة، من الانجازات المعنوية الى الانجازات المادية، ومن بين الانجازات المعنوية، تجرؤ فتيان من قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من عشر سنوات على إطلاق صواريخ على كيان مدجّج بالسلاح يرعب جيوش عربية، كما وضّح ذلك القائد زياد النخالة. ومن بين الانجازات المادية للمقاومة، تحوّل مدن العدو الى مدن أشباح طيلة ثلاثة أيام.
تابع مراسلو إعلام المقاومة آثار القصف "الإسرائيلي" على المدنيين والمجازر التي ارتكبها خلال عدوانه، لا سيما في آخر لحظاته، كما جرت العادة، أي انه يرتكب مجزرة مروّعة بحق المدنيين للتأكيد على همجيته بعد قرار وقف اطلاق النار بقليل، كنوع من الوداع المؤقت لمن قرّر مواجهته. نقل الإعلام المقاوم آلام الناس وصبرهم وحكاياتهم، واستهتار المجتمع الدولي بحياتهم، كما نقل انسانية هؤلاء المقاتلين الشرسين في وجه العدو، الذين لبّوا دون تردد نداء الوطن والجهاد.
أما الإعلام العربي والأجنبي الصديق للمقاومة (الإعلام الصديق ليس وسيلة إعلامية بعينها، بل محتواها المتمثل بالأخبار والتحليلات) فقام بتغطية العدوان وفضح همجية الاحتلال، دون الاستفادة من المعطيات التي قدّمها إعلام المقاومة، حول انجازاتها الميدانية وتأثيرها على العدو، وامكانياتها وتحليلاتها، وحاضنتها الشعبية، لمواجهة الإعلام المعادي، بل ركّز اجمالا على همجية الاحتلال، ونقل اسماء الشهداء والحديث عن العائلات المفجوعة، وتصوير الدمار في قطاع غزة.
رغم أهمية فضح همجية كيان العدو، في كل لحظة منذ قيامه على أرض فلسطين، لماذا يكتفي الإعلام
الصديق للمقاومة بنقل فقط صورة الضحية ولا ينقل صورة المجاهد والجهاد والقتال والردّ المزلزل على العدو؟ أليس من حق المقاومة الردّ على أي عدوان ؟ أليس من حق الشعب الفلسطيني مقاومة الكيان المغتصب بكل ما يمتلكه من سلاح وقوة ؟ أليس من حق الجماهير العربية والعالمية دعم ومساندة المقاومة بكل أشكالها ؟
يحاول أحيانا الإعلام الصديق للمقاومة الاستعانة بالإعلام الصهيوني، ليس لفضح أكاذيبه وتشويشه على الحقيقة، بل للادعاء أنه إعلام موضوعي يأخذ بالاعتبار كل المعطيات، ويبتعد عن "البروباغندا" (إعلام المقاومة)، ذلك لأنه يشكّك أساسا بالمقاومة وقدراتها وامكانياتها، وما زال يصدّق البروباغندا الصهيونية حول قدرات الصهاينة،كادعاء العدو تدمير أو شلّ قدرات "سرايا القدس" ب "الضربة الموجعة". كيف يفسّر هذا الإعلام إعلان "سرايا القدس" بأنها ستدقّ الكيان، في ثاني يوم من العدوان، في الساعة التاسعة تماما، ولم يستطع الطيران الحربي "الإسرائيلي" منع ذلك، رغم أنه كان يحلّق في سماء غزة، شبرا شبرا ؟ هل يدّل هذا على تدمير أو شلّ قدرة المقاومة ؟ يرفض هذا الإعلام تصديق إعلام المقاومة لأسباب سياسية أيضا، أي لعدم موافقته على الخط السياسي للمقاومين والمجاهدين. فهو يشكّك بإعلام المقاومة لأنها لا تتبنى خطه السياسي ونظرته الى الصراع، تجسيدا لحالة الأمة المفكّكة وصراعاتها الداخلية.
في مواجهة إعلام العدو، لم يستفد هذا الإعلام من المعطيات المقدّمة من قبل إعلام المقاومة، اذ بقي سطحيا يردّد ما يردّده منذ سنين، ولم يلاحظ المنعطافات المهمة في الساحة، بفضل مقاتلي "سرايا القدس". فكانت حاضنة المقاومة في مكان آخر، تتماهى مع سقوط الصواريخ على التجمعات الصهيونية وتنتظر المزيد والجولات القتالية القادمة، ايمانا بقدرة المقاومة على ايلام العدو.