»

معركة ما بين الحروب: أسرع وأعلى وأقوى

02 أيلول 2019
معركة ما بين الحروب: أسرع وأعلى وأقوى
معركة ما بين الحروب: أسرع وأعلى وأقوى

مركز أطلس للدراسات الإسرائيلية.

في العاميْن المنصرميْن تركزت معركة ما بين الحروب "مبم" التي خاضتها إسرائيل على الأرض السورية، والتي تضمنت - وفق التقارير - مئات الهجمات ضد أهداف تابعة لإيران أو وكلائها، في محاولة منعهم من التمركز العسكري وبالتالي زيادة التهديد المُشكل على إسرائيل من هناك. في أعقاب ذلك، ارتفعت في العام الأخير إمكانية أن تحول إيران جزءًا من مجهودات تقوية نفسها إلى العراق ولبنان، والمسؤولون الإسرائيليون الذين حذروا من حدوث ذلك تعهدوا علانية بالعمل على منع حدوثه.
في الشهر الأخير، حمل مسؤولون عراقيون إسرائيل المسؤولية عن مهاجمة أربعة مخازن للأسلحة التابعة للميليشيا الشيعية العراقية (الحشد الشعبي) حيث تم تفجيرها، جهات أمريكية صرحت بأن إسرائيل هي التي هاجمت على الأقل جزءًا من الأهداف (بينما أشارت مصادر أمريكية أخرى إلى أنه من المحتمل أن بعض التفجيرات حدثت بسبب درجة حرارة الصيف المرتفعة ووضع التخزين السيء)، وفي إسرائيل أيضًا هناك من بث التلميحات بشأن مسؤولية إسرائيل؛ ففي نهاية الأسبوع أعلنت إسرائيل أنها أحبطت محاولة للقيام بعملية بالطائرات المسيرة المتفجرة خطط لها "فيلق القدس" الإيراني من هضبة الجولان، وأن القوة المنفذة هوجمت في عقربا بالقرب من دمشق. في المقابل، تم الإبلاغ عن طائرتيْن مسيرتيْن مفخختيْن عملتا في مربع حزب الله في المربع الشيعي الجنوبي من بيروت (الضاحية)، واللتين انفجرت إحداهما وأحدثت أضرارًا في مكتب حزب الله في المكان، وفيما بعد قِيل بأن هدف الهجوم كان مصنعًا لتحسين دقة الصواريخ. بانتهاء خطاب أمين عام حزب الله حسن نصر الله، حدث هجوم آخر من الجو على مكونات ميليشيا شيعية على الحدود العراقية - السورية، ممّا ادى إلى سقوط قتلى وتدمير سلاح صاروخي، وربما وقع هجوم آخر في اليوم التالي ضد الميليشيات الشيعية في منطقة البو كمال في شمال شرق سوريا.
خصائص الهجمات التي وقعت في الآونة الأخيرة تعتبر خروجًا عن السلوك الإسرائيلي المُمارس حتى اليوم حسب الأبعاد التالية:
ساحات العمل
توسيع حدود المعركة إلى العراق استجابة لمجهودات إيران في توسيع ساحات تحركها ضد إسرائيل إلى العراق أيضًا، ومنذ ذلك الحين لم تنجح الحكومة العراقية والضغوطات الأمريكية بمنع حدوث ذلك. العراق يُستخدم حلقة في السلسلة اللوجستية لمنظومة حرب الوكلاء الإيرانية، وكقاعدة إطلاق محتملة للصواريخ الدقيقة على إسرائيل. إلى الآن، يبدو الاهتمام الإسرائيلي لهذا التغيير قليلًا، ربما بسبب عدم وجود آثار مباشرة مثبتة للقرار إلى الآن؛ لكن لن تدوم المتانة إلى الأبد.
التحرك الأكثر أهمية هو العمل في لبنان؛ مهاجمة طائرات مُسيرة مفخخة في بيروت الذي استهدف مشروع تحسين دقة الصواريخ. رغم ان إسرائيل امتنعت بداية الأمر من التطرق إلى العملية، غير ان الرئيس اللبناني ورئيس حكومتها اعتبراها "إعلان حرب"، نصر الله في خطابه أوضح انه يعتبرها خطرًا كبيرًا، وأكد على أنه من جهته فقد تم اختراق خطيْن أحمريْن: الهجوم الأول والعلني على أرض لبنان على خلاف "قواعد اللعب" التي صممت منذ الحرب، وقتل نشطاء حزب الله في سوريا. كما أكد على تجدد استخدام الطائرات الهجومية المتحكم بها عن بعد كأداة تفجير انتحارية لمهاجمة الأهداف.
منذ بداية تبلور "مبم" كان أحد المبادئ الرائدة فيها هو الامتناع عن التصعيد وإدارة العمليات تحت عتبة الحرب، وذلك من خلال تقليل شعور العدو بالاندفاع إلى القيام برد تصعيدي: تباعد العمليات الهجومية على المستوى الزمني والمكاني بهدف تمكين المنظومة المعادية من "التبريد" والحفاظ على الظهور العلني المنخفض، بحيث يبقي للعدو المهجوم عليه "مساحة للإنكار" ويقلص القيود السياسية والشعبية التي تدفعه للرد.
وتيرة العمليات
أربعة انفجارات في مخازن السلاح في العراق خلال شهر، وأربع هجمات خلال أيام في سوريا والعراق ولبنان تخلف صدى في ساحات العمليات وفي ساحة الحرب جميعها. تتابع الأحداث في العراق حرّك ردود فعل شعبية وسياسية زادت من التوتر بين الحكومة العراقية وبين القوات الأمريكية التي تستضيفها الحكومة، نصر الله أوضح بأنه ليس مسؤولًا عن الرد على الهجمات في العراق، ولكنه مصرّ على منع تطور مشابه في لبنان بأي ثمن كان. حزب الله تلقى ضربتيْن في ليلة واحدة؛ مقتل نشطائه في سوريا ومهاجمة مربعه في بيروت. التفاصيل الاستخبارية والتشغيلية الكامنة من وراء قرارات مضاعفة معدل العمليات لم تنشر، وبدونها يمكن فقط التقدير بأن القرار بتنفيذ مجمل العمليات في الشهر الأخير يعبر عن تفضيل الضرب المتراكم عالي الإيقاع، حتى في ظل المخاطرة الأكبر بالتصعيد، انه استثناء في تاريخ "مبم" حتى يومنا هذا.
العلانية
الهجمات في العراق تم التلميح إليها في التصريحات في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، الهجوم في سوريا أعطي في إسرائيل مساحة إعلامية واسعة في ظاهر الأمر من أجل تبرير هجوم دموي استباقي بهدف إحباط عملية؛ هذا المنطق يفسر الإعلان المقتضب الجاف ولكن ليس التصريح المتلفز لرئيس الحكومة من هضبة الجولان، حيث وقف إلى جانبه رئيس الأركان وظهره إلى سوريا. إذًا، نصر الله تطرق إلى ذلك بتفاخر، تصوير كلمة رئيس الأركان لقادة مقر الشمال متصدرًا الطاولة في قسم "هبشان" والتغريدات المتحدية التي نشرها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ضد قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني تعتبر هي الأخرى خروج عن المطلوب والمعروف. في الايام الأولى، بعد الهجوم في بيروت لم يكن هناك تطرق إسرائيلي رسمي للموضوع باستثناء توجيهات أولية للمراسلين. يوم الاثنين نشر (في الصحافة الأجنبية) أن هدف الهجوم كان خلاطًا للحشوات الدافعة للصواريخ في إطار مشروع دقة الصواريخ؛ هذه التسريبات يُراد منها ربما تفسير منطق الهجوم وأهميته، غير أنها أيضًا تزيد حرج حزب الله وربما تدفعه أيضًا للرد.
يبدو أن قرار منفذي العمليات اتخذ بناءً على التفسيرات التالية:
- على المستوى الاستراتيجي: مشروع دقة الصواريخ الإيرانية وصواريخ حزب الله اعتبر في إسرائيل تهديدًا خطيرًا لأمنها. بعد أن عرض رئيس الحكومة الإسرائيلية في هيئة الأمم المتحدة تصاوير لمواقع المشروع غيّر حزب الله أماكنها لكنه واصل مجهوداته لكي ينتج لنفسه قدرات إصابة واسعة للمواقع الحساسة في إسرائيل، مجهودات تحسين الدقة دارت على ما يبدو في العراق أيضًا. عندما اتضح عدم جدوى إحباط النشاطات بالأدوات الدبلوماسية وغيرها، قررت إسرائيل العمل بالهجوم، حيث ان خطر التهديد يبرر الزيادة في مخاطر التصعيد. في هذا الإطار، ربما تقدّر إسرائيل بأن مخاطر الحرب إثر الهجمات ليست كبيرة لأنه وفي الوضع الحالي ستفضل إيران وحزب الله الامتناع عن التصعيد الموسع.
- على المستوى التشغيلي: نشاطات العدو هي المدماك الأول في إعداد منفذي الهجوم، وأحيانًا هي أيضًا ما تفرض نافذة التنفيذ لتكون واسعة أو ضيقة ومحسوبة. القدرات الاستخبارية والتشغيلية تسمح لإسرائيل بأن تضرب مجهودات العدو، لكن أحيانًا تضيف إليها دوافع خاصة. توقيت الهجوم في سوريا خضع على ما يبدو لنمط تسارع تقدم خطوات العدو، سبب التوقيت ونمط الهجمات في العراق تبدو أقل وضوحًا، الهجوم في بيروت نفذ على ما يبدو من خلال نافذة الفرصة المحدودة، حيث تواجد الهدف في مخزن مؤقت قبل نقله إلى موقع محصن؛ ربما التقارب الزمني والتشابه في الأدوات (الطائرات المسيرة المفخخة) ما بين الهجوم في سوريا والاخر في لبنان كان مجرد صدفة.
- على المستوى السياسي/ الدبلوماسي: عمليات معركة ما بين الحروب "مبم" الأخيرة تظهر الجرأة والإصرار وأهلية القرار لدى رئيس الحكومة في مواجهة التهديد الإيراني، وكذلك الاستعداد لتبني المخاطر. عندما يتنافس مرشحو الأحزاب فيما بينهم من يمتلك القدرة على جلب "الأمن" أكثر من الآخر؛ هالة العمليات ضد إيران من شأنها ربما ان تساعد رئيس الحكومة الذي يتعرض لانتقادات من اليمين ومن اليسار بسبب الرد "الضعيف" للغاية على تحديات "الإرهاب" من غزة والضفة الغربية. حتى وإن صودقت الهجمات نفسها دون أي أثر للاعتبارات السياسية، فإن التصريحات التي رافقتها مغروسة عميقا في المجال السياسي.
على المستوى السياسي، يبدو أن هناك خطوات قبيل إمكانية أن تتطور مفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران في الملف النووي، والتي لا تناسب رئيس حكومة إسرائيل. ربما أنه إضافة إلى المس بقدراتها، زيادة الضغط الهجومي على إيران وشركائها استهدف دفعها إلى رد سريع، ربما يمس باحتمالية فتح حوار بين إيران والولايات المتحدة. على الصعيد الداخلي الإيراني، ليس واضحًا أن الضربات التي تلقاها قاسم سليماني ومبعوثيه تعزز مؤيدي الخط المتشدد في القيادة أو أنها تضعفه تحديدًا.
الانعكاسات المحتملة للتطورات الأخيرة في "مبم"
تصعيد محتمل في لبنان: في خطابه الأخير حذر نصر الله من أنه وعلى ضوء مهاجمة الطائرات المسيرة فإن حزبه لن يسلم بعد الآن بوجود الطائرات الإسرائيلية غير المأهولة في سماء لبنان وسيعمل على إسقاطها، ووعد برد قاسٍ على سقوط شهدائه في سوريا بحيث لا يكون مواطني إسرائيل آمنين في أي مكان فيها، ودعا جنود الجيش الإسرائيلي إلى انتظار الرد. المنظومة الأمنية تقدر بأنه ازداد خطر الرد من لبنان، وتتأهب بما يوافق تقليص الانكشاف والدفاع عن النفس باحتمال المهاجمة. على ضوء مساحة ضبط النفس المقلص الذي أبقاه نصر الله لنفسه، يمكن انتظار رد هجومي من نوع ما، مصادر في لبنان أكدت على أن حزب الله يسعى إلى القيام بعملية رد مدروسة بحيث لا تقود إلى الحرب. في الماضي تضمنت ردوده إطلاق صواريخ وقنص وصواريخ مضادة للدبابات وهجوم بالعبوات المتفجرة من سوريا ولبنان، ولكن هذه المرة يُفترض أنه سيرد من لبنان ربما أيضًا بهجوم تستخدم فيه الطائرات المسيرة، حيث وردت التقارير الأولية بشأن تحركاتها على الحدود في الأشهر الاخيرة. بأسلوب "الصاع بالصاع" قد يعمل حزب الله على إسقاط طائرة إسرائيلية في لبنان ويحاول المساس بعدد صغير من الجنود، بما في ذلك عملية دموية تضطر إسرائيل لأن ترد عليها. التحدي في ذلك كما حدث في يناير 2015 هو ان عدد المصابين ليس تحت السيطرة التامة لمنفذي العملية، ويتأثر للغاية أيضًا بعوامل الصدفة، سواء في منظومة السلاح المستخدم أو/ وتصرف المقاتلين. عليه وبانتظار رد حزب الله في إسرائيل، في طائراتها أو في قواتها، الوضع اليوم أقرب إلى التصعيد منذ 2015، حتى وإن لم يكن الطرفين معنيان بهِ ويعمل آخرون كثر على منع حدوثه.
التوتر المتزايد مع الولايات المتحدة: عمليات "مبم" تخلق محورين من التوتر: في أولهما توتر محتمل مع الرئيس ترامب في الملف النووي الإيراني، والذي من شأنه أن يرى في العمليات الإسرائيلية اعتراضًا مقصودًا لجهوده في إحداث
تقدم في المفاوضات، وفي الثاني التوتر الذي اندلع حسب المنشورات بين إسرائيل وبين المؤسسة الأمنية الأمريكية (وسيما مقر الوسط) على ضوء الخطر الذي يرونه في عمليات إسرائيل بالعراق، الذي تتعرض له قواتهم في المنطقة والعلاقات مع الحكومة العراقية.
تزايد الضغط على معركة ما بين الحروب: ارتفاع دوافع الرد من قبل محور "المقاومة" ومخاطر التصعيد المتزايدة في لبنان والتوترات مع الولايات المتحدة وعدم رضى روسيا، بل وربما تعزيز المنظومات الدفاعية الجوية في المنطقة مستقبلًا تتراكم لتصبح منظومة ضغط كبيرة تحد من مساحة تحركات إسرائيل في معركة ما بين الحروب على الأقل في الفترة القريبة.
خطورة مشروع الدقة يشحذ التوتر ما بين الحاجة إلى إحباطه وبين مخاطر التصعيد: إدارة المعركة في ساحات العراق ولبنان تنطوي على مخاطر عسكرية ومصاعب سياسية غير موجودة في سوريا. في النقطة الزمنية الحالية، يبدو أنه وبهدف السماح باستمرار الرد الحازم والفعال للمنظومة القتالية الإيرانية الوكيلة؛ المطلوب تهدئة الأمور بعض الشيء والعودة إلى المبادئ المدروسة لمعركة ما بين الحروب حتى الآن. في الجمع الصحيح بين معدل العمليات وبصمة العملية المنخفضة والإعلان عنها مع التفكير في الشركاء والظروف الاستراتيجية، وذلك من أجل خدمة الأهداف الأساسية للمعركة: استبعاد الحرب ومنع التصعد وردع العدو عن مهاجمة إسرائيل وإبطاء تعاظم قوته من أجل تأخير تفاقم التهديد. الظروف والساحات الجديدة تستوجب التوازن الأكثر تعقيدًا بين مخاطر المعركة وفرصها بالنسبة للسنوات الأخيرة في سوريا. مرحلة جديدة قد بدأت.