»

"صفقة القرن": السلام بلا فلسطينيين وبشروط إسرائيلية

24 أيار 2019
"صفقة القرن": السلام بلا فلسطينيين وبشروط إسرائيلية
"صفقة القرن": السلام بلا فلسطينيين وبشروط إسرائيلية

مركز الجزيرة للدراسات

أصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان"صفقة القرن: السلام بلا فلسطينيين وبشروط إسرائيلية" إرتأى المركز نشرها للإطلاع عليها والإستفادة منها كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى وجهات النظر أو المصطلحات الواردة في الدراسة توشك الإدارة الأميركية على الإعلان عن خطة جديدة للسلام، باتت تُعرف إعلاميًّا بصفقة القرن، وقد تحقق بعضها، مثل: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتمهيد لتطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية. ومع ذلك، لا تزال مجموعة من التحديات، من أهمها: التحولات الاستراتيجية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.

لابد من التأكيد في البداية على أن الإدارة الأميركية لم تنشر رسميًّا بنود خطتها للسلام حتى الآن وأن جميع ما يتم تناوله حول ما يطلق عليه "صفقة القرن" هو عبارة عن تسريبات صحفية بالأساس أعلنت الإدارة الأميركية مرارًا وتكرارًا أنها "غير دقيقة". وبدلًا من مناقشة أفكار غير معلنة وسرية، تهدف هذه الورقة إلى تحليل الخطوات الأميركية-الإسرائيلية العملية والتي تم إنجازها ضمن المساعي الأميركية للاعتراف بما قامت إسرائيل بفرضه بالقوة، ومن طرف واحد، تجاه إنهاء المسألة الفلسطينية. بعكس الإدارات الأميركية السابقة، يبدو أن إدارة ترامب عكست استراتيجيتها في التعامل مع المسائل الشائكة التي كانت سببًا كافيًا في تفجر المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية السابقة، وهي: حسم مصير مدينة القدس لصالح إسرائيل، وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وتشريع التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والتمهيد لضم مساحات منها تحت السيادة الإسرائيلية. تعالج الورقة أولًا الملفات الأكثر صعوبة (مصير مدينة القدس، ومسألة اللاجئين، والتوسع الاستيطاني)؛ ومن ثم تعرض مواقف السلطة الفلسطينية الملتبسة تجاه الخطة. وتناقش أخيرًا التحديات التي تعترض تطبيق الخطة والتطورات المستقبلية المتوقع حصولها.

مصير مدينة القدس
اعترفت إدارة ترامب، في ديسمبر/كانون الأول 2017، بمدينة القدس موحدة بقسميها الشرقي والغربي عاصمة لإسرائيل، وقامت بالفعل بنقل سفارتها إلى المدينة، في مايو/أيار 2018، بهدف حسم مصيرها قبل أية مفاوضات مستقبلية مع تأكيد السيادة الإسرائيلية على كامل المدينة بلا منازع. تشير بعض التسريبات الإعلامية الإسرائيلية إلى أن الخطة الأميركية للحل تقوم على تقسيم مدينة القدس مع احتفاظ إسرائيل بالسيادة على القدس الغربية وبعض الأجزاء من القدس الشرقية بما يشمل البلدة القديمة ومحيطها مع وجود إدارة مشتركة تضم إسرائيل، والفلسطينيين، والأردن، وربما دولًا أخرى. وبدلًا من مدينة القدس، فإن الخطة الأميركية تطمح إلى منح الفلسطينيين عاصمة في بلدة أبو ديس، التي تبعد حدودها الغربية فقط كيلومترين عن المسجد الأقصى.

تتطابق التسريبات حول مصير مدينة القدس مع ما قامت به إسرائيل على مدار أكثر من خمسة عقود من احتلالها للمدينة سواء فيما يتعلق بالاستيطان أو سياسات التهويد. احتلت إسرائيل في عام 1948 ما مجمله 84% من مساحة مدينة القدس، والتي أصبح يطلق عليها القدس الغربية، وأعلنتها عاصمة لها. خضع القسم الشرقي من المدينة، والذي يضم المدينة القديمة وما تحتويه من أماكن مقدسة، مثل: المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، لحكم الأردن حتى قامت إسرائيل باحتلاله في 5 يونيو/حزيران 1967. ومنذ ذلك الحين، اتبعت إسرائيل استراتيجية ممنهجة ترتكز على محورين أساسيين وذلك من أجل تهويد المدينة وتثبيت السيادة الإسرائيلية عليها:

أولًا: تقليص الوجود الفلسطيني مع زيادة أعداد اليهود وطمس معالم المدينة الإسلامية: تبنت إسرائيل في عام 1973 استراتيجية تقوم على عدم السماح بأن تتجاوز نسبة السكان الفلسطينيين 22% من مجموع سكان المدينة. ومنذ ذلك الحين، قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بمجموعة متنوعة من الإجراءات العقابية ضد الوجود العربي تضمنت سحب هويات آلاف المقدسيين، وهدم البيوت بحجة عدم الترخيص، ومصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية. تمثَّلت الحلقة الأخطر في مسلسل تهويد المدينة في بناء إسرائيل للجدار العازل حول المدينة، في عام 2002، والذي أدى إلى فصل أكثر من 125 ألف مقدسي عن مراكز حياتهم داخل أسوار مدينة القدس القديمة بينما ضَمِنَ ضمَّ عدد من المستوطنات المحيطة إلى حدود القدس وذلك في مسعى لتغيير الميزان الديمغرافي لصالح التركيبة اليهودية. اليوم، يعيش في شرق القدس 320 ألف فلسطيني يشكِّلون 36% من مجمل سكان القدس بشطريها. في المقابل، يعيش نحو مئتي ألف مستوطن شرق القدس. وفي مقابل الدعم غير المحدود الذي يتلقاه المستوطنون، يعيش حوالي 80% في المئة من الفلسطينيين -بحسب الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية- في الفقر والتهميش، حيث يبلغ معدل دخل الفلسطيني شهريًّا نحو ألف دولار، وهو أقل من نصف تكلفة المعيشة بالمدينة(1). علاوة على ذلك، فرضت إسرائيل مجموعة من القوانين والإجراءات الهادفة إلى تهويد المدينة وطمس معالمها الإسلامية مثل تغيير أسماء الأماكن والأحياء، وحفر الأنفاق تحت البلدة القديمة.

ثانيًا: محاربة تأسيس وجود فلسطيني رسمي في مدينة القدس عن طريق تفكيك البنية الأمنية والسياسية والمؤسساتية للسلطة الفلسطينية: استثنى اتفاق أوسلو مدينة القدس الشرقية من أية سيطرة أمنية أو سياسية للسلطة الفلسطينية وأبقاها تحت السيادة الفعلية الإسرائيلية الحصرية. ومنذ اتفاق أوسلو، فشلت السلطة في بناء أي وجود سياسي أو مؤسساتي فاعل في المدينة. وزاد من تهميش المدينة استثناؤها من الانتخابات المحلية الفلسطينية، عامي 2005 و2012، ليرسخ ذلك الفراغ السياسي الفلسطيني في المدينة التي تغيب عن أولويات التخطيط والتنمية ضمن ميزانيات السلطة الفلسطينية. فبينما تخصص إسرائيل أربعة مليارات شيكل سنويًّا للقدس، تبلغ ميزانية المدينة المخصصة من قِبَل السلطة 25 مليون شيكل فقط. ويزيد من متاعب المدينة وتهميشها تعدد المرجعيات الفلسطينية فيها، حيث تتوزع هذه المرجعيات على عدد كبير من الأطر التي تتراوح ما بين منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية، والحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر، والأوقاف الإسلامية التي تتبع للأردن. تعاني هذه المرجعيات في الأغلب من التنافس والتصارع وغياب التنسيق وتشرذمها والتداخل في الصلاحيات فيما بينها(2).
 

لا لعودة اللاجئين!
شكَّلت مسألة حل قضية اللاجئين الفلسطينيين أحد أعقد المسائل في المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ انطلاقتها مطلع تسعينات القرن الماضي. يطالب الفلسطينيون بعودة اللاجئين إلى الأماكن التي طُردوا منها سواء في حرب عام 1948 أو حرب عام 1967. في المقابل، ترفض إسرائيل أية عودة للاجئين الفلسطينيين وتعتبر عودتهم نهاية عملية "للطابع اليهودي للدولة" ومطلبًا يهدف إلى تدمير إسرائيل داخليًّا عن طريق قلب المعادلة الديمغرافية لصالح الفلسطينيين. يعيش في إسرائيل حوالي تسعة ملايين نسمة، منهم حوالي 1.8 مليون عربي، أي حوالي 20 بالمئة من عدد السكان.

وبالرغم من غموض الرؤية الأميركية تجاه مسألة اللاجئين، تُظهر بعض المؤشرات والإجراءات الأميركية والإسرائيلية المخطَّط تجاه هذه المسألة، وخاصة العمل على تدمير وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة اختصارًا بـ "الأونروا" والتي تعمل منذ تأسيسها كإطار مؤسساتي يهتم باللاجئين الفلسطينيين. فبعد عام واحد من انتهاء حرب عام 1948، صوَّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح إنشاء وكالة الأونروا وذلك بهدف مساعدة اللاجئين الفلسطينيين المهجَّرين من أراضيهم وقراهم. يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا اليوم 5.15 ملايين لاجئ موزعين على مجموعة من المناطق، أهمها: الضفة الغربية، وقطاع غزة، والأردن، ولبنان، وسوريا. تقدم وكالة الأونروا مجموعة من الخدمات الأساسية للاجئين تتعلق بالرعاية الصحية، والتعليم، وشبكة أمان اجتماعية، ودعم البنية التحتية في المخيمات الفلسطينية(3).

تعتبر الوكالة اليوم المؤسسة الأكثر "كرهًا في إسرائيل" وعقبة أساسية أمام تحقيق السلام بنظر الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتهم إدارة ترامب وكالة الأونروا بأنها مؤسسة "معيبة بشكل لا يمكن إصلاحه"(4) وأنها تعمل على إدامة أزمة اللاجئين عن طريق توفير الخدمات الأساسية لهم بدلًا من العمل على إعادة توطينهم بشكل دائم في مكان آخر، أي في الدول التي تستضيفهم. ففي رسائل بريد إلكترونية داخلية مسربة من جاريد كوشنر إلى زميله، جيسون غرينبلات، ظهرت نية الإدارة الأميركية بالعمل على بذل مجهودات لعرقلة عمل الأونروا ونشاطاتها(5). بدأت الولايات المتحدة الأميركية بتطبيق ذلك بالفعل في عام 2018 وذلك عن طريق قطع مساعداتها المالية للوكالة؛ حيث سحبت الولايات المتحدة 300 مليون دولار من قيمة تمويلها وهو ما سبَّب أزمة مالية غير مسبوقة للوكالة ووضع نشاطاتها في كافة أقاليم العمليات في دائرة الخطر(6) لولا المساعدات الطارئة التي استطاعت الوكالة تجنيدها. تعتبر الولايات المتحدة الأميركية أكبر مساهم في ميزانية الأونروا التي تبلغ 1.2 مليار دولار؛ حيث وصلت المساعدات الأميركية 319 مليون دولار عام 2016.

لم تكتف الولايات المتحدة بوقف تمويل وكالة الأونروا، بل تعمل -وبالتعاون مع إسرائيل- على تفكيكها ونقل صلاحياتها لهيئات أممية أخرى وذلك عن طريق إعادة تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني. يتهم الطرفان، الأميركي والإسرائيلي، وكالة الأونروا بمساعدة الفلسطينيين في إدامة روايتهم المتعلقة بالصراع وأسبابه وذلك عن طريق توريث مكانة اللاجئ لنسل اللاجئين، حتى أولئك الذين يتمتعون بجنسية دول أخرى وهو ما أدى إلى مضاعفة أعداد اللاجئين أكثر من مرة خلال العقود الماضية. فقد تم إنشاء الأونروا لخدمة اللاجئين الفلسطينيين حصرًا وهي تعتبر أن جميع اللاجئين وأحفادهم يندرجون ضمن إطار اختصاصاتها ومسؤوليتها القانونية، وهذا بالتحديد ما تحاول تل أبيب وواشنطن تغييره حاليًّا.

تطالب إسرائيل والولايات المتحدة الأممَ المتحدة بإعادة تعريف اللاجئين وصلاحيات الأونروا بحيث يتم استخدم ذات المعايير التي تنطبق على مجموعات اللاجئين الأخرى في العالم والتي تشرف عليها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي تم إنشاؤها في عام 1950. بخلاف الأونروا، لا تمنح المفوضية السامية اللاجئين مكانة ووضع لاجئ بصورة مباشرة لأبناء اللاجئين، وخاصة في حال كان لديهم جنسية دولة أخرى. وفي حال تحقق المطلب الإسرائيلي-الأميركي وتم إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني ونقل مسؤولية اللاجئين الفلسطينيين تحت إطار المفوضية السامية، فإن ذلك سيعني إزالة وضع لاجي عن كل اللاجئين الفلسطينيين باستثناء اللاجئين القلائل الذين هاجروا في عام 1948. فمن بين مئات آلاف اللاجئين الذين أُجبروا على الرحيل في عام 1948، يُعتقد أن نسبة قليلة منهم لا يزالون على قيد الحياة(7). وبناء على تقييمات جيمس ليندسي، مستشار قانوني وخبير سابق للأونروا، فإن تحويل اللاجئين من صلاحيات الأونروا إلى المفوضية السامية يعني أن غالبية اللاجئين الفلسطينيين سوف يفقدون وضعية اللاجئ القانونية التي يتمتعون بها ضمن إطار وكالة الأونروا. فعلى سبيل المثال، سوف يفقد 1.8 مليون لاجئ في الأردن من حوالي 2.2 مليون صفة اللجوء وذلك بسبب كونهم يحملون الجنسية الأردنية. ينطبق هذا أيضًا بصورة كبيرة على وضع اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وبصورة أقل على اللاجئين في لبنان وسوريا والتي لا يتمتع فيهما اللاجئون الفلسطينيون بكامل حقوق المواطنة(8).

سيسهِّل ذلك، من وجهة النظر الإسرائيلية والأميركية، تطبيق حلول إقليمية لمشكلة اللاجئين أو على الأقل عدم اعتبارها عقبة أساسية لتحقيق السلام.

استغلت إسرائيل الموقف الأميركي المتواطئ معها لتبدأ في إجراءات عملية تهدف لتهميش الأونروا وإنهاء دورها. ففي سبتمبر/أيلول 2018، صرَّح رئيس بلدية القدس، نير بركات، بأنه سيعمل على طرد وكالة الأونروا من مدينة القدس وذلك عن طريق الاستعاضة في جميع مهامها بخدمات البلدية وذلك بهدف "أسرلة" شرقي المدينة وتثبيت السيادة الإسرائيلية على جميع مدينة القدس(9). وكشفت تقارير صحفية في حينه أن هذه الخطة سوف يتم تنفيذها اعتبارًا من العام المقبل وذلك بإغلاق جميع مدارس ومؤسسات الأونروا في القدس(10). علاوة على ذلك، عملت إسرائيل، في يوليو/تموز 2018، على إقرار قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل والذي يعرِّف إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي ويزيد من صعوبة أي حلول تتضمن عودة اللاجئين أو جزء منهم إلى أراضيهم التي هُجِّروا منها عام 1948. وينص قانون الدولة القومية على أن إسرائيل هي "دولة قومية للشعب اليهودي" وعلى أن "ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي"(11).

وبدلًا من تعويض اللاجئين الفلسطينيين، تسعى إسرائيل، ضمن إطار صفقة القرن، إلى مطالبة الدول العربية بـ250 مليار دولار تعويضات عن ممتلكات اليهود الذين تزعم إسرائيل أنهم كانوا يملكونها قبل نقلهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. ففي عام 2010، سنَّ الكنيست الإسرائيلي قانونًا يلزم الحكومة بتضمين ملف "تعويض أملاك اليهود" في كل مفاوضات سلام تجريها مع الدول العربية. ومع زيادة الحديث عن "صفقة القرن"، بدأت إسرائيل فقط قبل عشرين شهرًا بالعمل على حصر وتقدير الممتلكات اليهودية في الدول العربية والإسلامية(12).