»

التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الدولية

20 أيار 2019
التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الدولية
التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الدولية

المعهد المصري للدراسات

أصدر المعهد المصري للدراسات دراسة بعنوان" التدخل الإنساني في ضوء الاتفاقيات الدولية" إرتأى المركز نشرها للإطلاع عليها والإستفادة منها كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى وجهات النظر أو المصطلحات الواردة في الدراسة

تعتبر المعاهدات الشارعة [1] من أهم الممارسات الدولية التي يمكن الاستدلال بها لإثبات وجود قاعدة عرفية دولية خاصة بمسألة معينة، لأنها غالبا ما يتم إعدادها بواسطة لجنة القانون الدولي [2] وتعتمد في مؤتمرات دولية تدعو إليها الأمم المتحدة.

والمعاهدات الشارعة هي اتفاقات متعددة الأطراف يشترك في إبرامها عدد غير محدود من الدول في أمور تهم الدول جميعا؛ وتتميز بأنها تساهم في تدوين قواعد العرف الدولي لتسبغ عليها صفة التحديد والوضوح وتحسم كل نزاع بشأنها، أو أن تتعجل العرف في أمر من الأمور فتقرر قاعدة اعتادت بعض الدول على السير على مقتضاها ولكن تباطأ العرف في إثباتها لعدم تواتر اتباعها بشكل عام ثابت، بالإضافة إلى إنشاء قواعد جديدة تواكب تطور المجتمع الدولي [3].

والمعاهدات العقدية التي تعقد بين عدد محدود من الدول في أمر خاص بها، والتي لا تلزم غير المتعاقدين، قد تساهم أيضا في تكوين عرف دولي عن طريق تكرار إبرام معاهدات من هذا النوع تتضمن أحكاما متشابهة في أمور متماثلة، فتكرار النص على ذات الحكم في هذه المعاهدات المختلفة دليل على تعارف الدول على وجوب اتباعه فيثبت بذلك كقاعدة قانونية عرفية. [4]

وقد شهد التنظيم الدولي خلال القرن العشرين، بروز منظمتين كبيرتين، ضمتا العديد من الأطراف الدولية، هما عصبة الأمم، وهيئة الأمم المتحدة، وجاء تشكيل هاتين المنظمتين في أعقاب حربين عالميتين، دمرتا الكثير من قدرات العالم، وأودت بحياة مئات الآلاف وشردت الملايين من المواطنين، فكان لجوء دول العالم إلي إنشاء تنظيم من شأنه حفظ السلم والأمن الدوليين والحيلولة دون نشوب أخري.

وقد ارتبطت نشأة كل تنظيم من هذين التنظيمين وما حكمهما من قواعد ومواثيق بطبيعة الظروف الدولية التي نشأتا فيهما، ومن هنا كان الاختلاف بينهما كبيراً سواء في المبادئ الحاكمة أو الأسس التي قامت عليها، ومن بين هذه المبادئ، مبدأ التدخل الدولي، الذي اختلفت طبيعته والقواعد الحاكمة له في إطار عصبة الأمم عنه في إطار الأمم المتحدة.

حيث يعد إنشاء عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى تطوراً محورياً في التنظيم الدولي وفي اتجاه عدم التدخل أيضاً، ودعماً وتأكيداً لمبدأ السيادة، ففي المادة العاشرة من عهد العصبة تم استبعاد التدخل كأداة من أدوات السياسة الخارجية، وقد كان لهذه المادة أهمية مركزية خاصة للدول الكبرى، فلقد كانت أحد أسباب رفض مجلس الشيوخ الأمريكي التصديق على اتفاقية فرساي 1919م، وعهد العصبة لتحريم العهد للتدخل، والذي كان في ذلك الوقت يعد حقاً قانونياً ضرورياً للدول الكبرى.

إلا أن أول صياغة كاملة وصريحة لمبدأ عدم التدخل كانت في منظمة الدول الأمريكية، ثم جاءت المادة الثانية الفقرة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة لتؤكد على تصفية التدخل من الممارسات اليومية والقانونية للدول، وجاء مؤيداً لها مبدأ “نكسون”، والذي استبعد التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى.

وهذا الاتجاه في التنظيم الدولي يؤكد استمرارية تفوق مبدأ سيادة الدولة، خاصة مع ميلاد دول جديدة تسعى وتناضل للحصول على سيادتها، وحتى المنظمات الدولية والتي ـ نظرياً هي ضد فكرة السيادة فإنها ـ أي هذه المنظمات ـ تعمل لحماية هذه السيادة بشكل أو أخر.

ويلاحظ على فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية أن التدخل لاعتبارات إنسانية كان قائماً، بل إن “طوسون” يرى أنه كان قاعدة معترفاً بها في القانون العرفي، ولكن بعد ميلاد الأمم المتحدة وإنشاء المادة الثانية الفقرة الرابعة من الميثاق ـ الخاصة بتحريم استخدام القوة ـ أصبح التدخل محرماً. وأنه لم يكن هناك معنى قانوني “لحقوق الإنسان” قبل توقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أي لم تكن هناك اتفاقية دولية أو إعلان دولي ينص على حماية حقوق الإنسان.

ومن ثم يعد إنشاء الأمم المتحدة نقلة قانونية هامة في تطوير مفهوم التدخل عموماً والتدخل لاعتبارات إنسانية خصوصاً. ومنذ إنشاء الأمم المتحدة ثارت قضايا تدخل كثيرة، استخدم فيها التبرير الإنساني وذلك بغض النظر عن مدى مصداقيته ـ فنجد من أمثلة هذه التدخلات: الكونغو 1960 (شاركت فيها الأمم المتحدة بعملية Onun)، وقبرص عام 1964 (شاركت فيها الأمم المتحدة)، روديسيا عام 1966، حرب فيتنام ، والتدخل الهندى في شرق باكستان في 1971، والذي أدى لتكوين بنجلاديش، والتدخل الفرنسي في وسط أفريقيا 1979، والتدخل التنزاني في أوغندا للقضاء على “عايدي أمين” في 1979، التدخل الأمريكي في نيكارجوا 1979، وفي جرينادا في 1983، وفي بنما عام 1989، والتدخل الدولي في العراق 1991، وفي الصومال عام 1992. وفي كمبوديا عام 1992، وفي هايتي 1993، وفي يوغسلافيا السابقة وعملية الأمم المتحدة 1994. ومن هذه الحالات ما استخدم فيها التبرير الإنساني وتم التراجع عنه ـ مثل التدخل الهندى في شرق باكستان ـ وشاركت قوات الأمم المتحدة في بعضها [5].

وللوقوف على طبيعة التدخل الدولي والقواعد الحاكمة له في إطار الاتفاقيات العالمية (وتحديداً عصية الأمم وميثاق الأمم المتحدة) فقد تم تقسيم هذه الدراسة إلى مبحثين وذلك على النحو التالي: المبحث الأول: التدخل الإنساني في ظل عصبة الأمم. المبحث الثاني: التدخل الإنساني في ظل ميثاق الأمم المتحدة

المبحث الأول: التدخل الإنساني في ظل عصبة الأمم

رغم أن المادة الخامسة عشر من عهد عصبة الأمم قد أشارت في فقرتها الثانية ـ بشكل غير مباشر ـ إلى التدخل الدولي، وذلك حينما نصت على إنه “إذا ادعى أحد الأطراف وإذا اعرف المجلس بأن الخلاف يتعلق بمسألة يتركها القانون الدولي للاختصاص الكامل لهذا الطرف، يثبت المجلس ذلك في تقرير دون أن يوصي بحل”. إلا أن الجمعية العامة لعصبة الأمم قد أصدرت بتاريخ 2/10/1937 قرارها الذي جاء فيه: “يجب على كل دولة الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى.

ولكن الحرب العالمية الأولى لم تشكل فقط إهداراً لما بذل من جهود نحو بلورة مبدأ عدم التدخل في العلاقات الدولية، بل هدماً وانتهاكاً لمبادئ وأهداف تلك المنظمة الدولية، ورغم ذلك فقد شهد الواقع الدولي نوعا من انعكاس مدلول ذلك المبدأ في إطار العلاقات الدولية، وذلك على النحو الآتي:

ـ حرص مؤتمر “ريو” المنعقد فيما بين الجمهوريات الأمريكية عام 1927 على النص في مادته الثالثة على أنه “ليس من حق أية دولة أن تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى”.

ـ وافقت اللجنة الفرعية، التي أعدت مشروع اتفاقية “حقوق وواجبات دول أمريكا اللاتينية” ـ بالإجماع ـ على إدانة التدخل، ثم ضمنت أحكام ذلك المشروع تعريفاً للتدخل بأنه: “كل عمل يمارس بواسطة دولة سواء بالطرق الدبلوماسية أو بالقوة العسكرية، أو بواسطة أية وسيلة قهرية أخرى، لفرض إرادتها على دولة أخرى، وبصفة عامة هو كل تدخل يمارس مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة في شؤون دولة أخرى، أياً كان السبب الذي يمارس من أجله”.

ـ أقر مؤتمر الدول الأمريكية المنعقد في “بيونس ايرس”، في الأرجنتين، بتاريخ 21/12/1936، مبدأ عدم التدخل في نص بيانه الذي جاء فيه: “عدم قبول التدخل، من جانب دولة في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى، وحل جميع المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وعدم السماح باستخدام القوة كأداة للسياسة الوطنية أو الدولية.

وفي إطار هذه القرارات وتلك النصوص، نجد أن التدخل الدولي في ظل عصبة الأمم قد اختلفت صوره، وأسبابه باختلاف الظروف السياسية والقوى الرئيسية التي تحكم العلاقات الدولية من مرحلة لأخرى، فالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، كان يأتي في الغالب من جانب الدول فرادى أو جماعات [6]. خاصة في حالات ضعف وتدهور الأوضاع الداخلية للدولة المتدخل في شأنها. كما حدث عندما تدخلت الدول الأوروبية، في أوائل القرن التاسع عشر، في الشؤون الداخلية للإمبراطورية العثمانية، خاصة بعد انتشار القلاقل في أرجائها والصراعات المسلحة بين الولايات المختلفة، والسلطة المركزية للدولة العثمانية [7].

ويمكن تناول التدخل الدولي في ظل عصبة الأمم، من خلال المطالب التالية: المطلب الأول: طبيعة التدخل الدولي والإشكاليات التي يثيرها. المطلب الثاني: موقف الفقه الدولي من التدخل في عهد العصبة، المطلب الثالث: حالات التدخل في ظل عصبة الأمم.