»

الخليج في 2019: ملامح الجغرافيا السياسية للطاقة

10 أيار 2019
الخليج في 2019: ملامح الجغرافيا السياسية للطاقة
الخليج في 2019: ملامح الجغرافيا السياسية للطاقة

مركز الجزيرة للدراسات

أصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "الخليج في 2019: ملامح الجغرافيا السياسية للطاقة" إرتأى المركز نشرها للإطلاع عليها والإستفادة منها كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر أو المصطلحات الواردة

كان العام 2018 عامًا بالغ الأهمية فيما يتعلق بجيوسياسية الطاقة؛ حيث تمكنت الولايات المتحدة الأميركية مرة أخرى من استعادة مكانتها كأكبر منتج للبترول. فبعد أن كان معظم القرن العشرين قرن الريادة الأميركية في إنتاج النفط عالميا إلى حدود العام 1974، تمكن الاتحاد السوفيتي، في أوج فترة الحرب الباردة، من إزاحتها عن موقعها كأكبر منتج عالمي للنفط. وبدورها، وتحديدًا في العام 1976، تجاوزت المملكة العربية السعودية الاتحاد السوفيتي في إنتاج النفط لتتصدر المرتبة الأولى عالميًّا، ومنذ ذلك التاريخ بسطت المملكة العربية السعودية هيمنتها على سوق النفط للعقود الأربعة التالية. غير أن الطريقة التي استعادت بها أميركا انتزاع ريادة إنتاج النفط من السعودية تستدعي إجراء دراسة أوسع نطاقًا لجوهر التغير الجيوسياسي الطارئ على أسواق الطاقة، وما الذي يعنيه ذلك جيوسياسيًّا، فيما يتعلق بانخراط الولايات المتحدة الأميركية في قضايا منطقة الشرق الأوسط.

لا شك في أن استغلال النفط الصخري في أميركا أحدث ثورة جذرية في قطاع الطاقة ومكَّن الولايات المتحدة الأميركية من تجاوز المملكة العربية السعودية باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم. وقد كان من أهم التداعيات الجيوسياسية الأوسع لثورة النفط الصخري في أميركا هو استكمال تحقيق "الاستقلال في مجال الطاقة". ففي الوقت الذي تؤثر فيه عوامل إمدادات النفط العالمي والطلب عليه والمخاطر الجيوسياسية على سعر خام تكساس الوسيط (WTI) وخام تكساس الخفيف الحلو، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على المستهلك الأميركي، فإن الأمر المهم هنا هو أن استكمال تحقيق أميركا استقلالها في مجال الطاقة، وتحولها إلى أكبر منتج للنفط عالميًّا، كان له تأثير سيكولوجي وسياسي مهم استتبع بالضرورة عددًا من التداعيات، وهذا أمر لا ينبغي الاستهانة بأهميته وسيتم تناوله في هذه الورقة من خلال عدسة السياسة الخارجية الأميركية ومصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.

شهد العام 2018 احتفال السعودية بالذكرى الثمانين، 3 مارس/آذار، لاكتشاف آبار النفط فيها، وهو الحدث الذي أدى إلى تطور في استراتيجية تفكير الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط. وقد تبلورت تلك الاستراتيجية في عهد حكم إدارة الرئيس، نيكسون، أي قبل خمسة عقود مضت وتحديدًا منذ العام 1968، حيث تم الإعلان عن "نظرية نيكسون" التي وضعت تصورًا استراتيجيًّا تمحور بالأساس حول ثنائية تأمين التدفق الحر للنفط الخام من منطقة الخليج وتقديم الدعم للحلفاء الإقليميين في المنطقة في مواجهة انتشار الاشتراكية السوفيتية. قد تكون هذه الاستراتيجية وليدة الضرورات التي فرضتها الحرب الباردة في ذروتها، غير أن المصالح الاستراتيجية الأميركية في المنطقة ظلت ثابتة منذ تلك الفترة وحتى اليوم.

أدت نظرية نيكسون، أو عقيدة نيكسون الاستراتيجية، إلى ترسيخ استراتيجية الاعتماد على حليفين تجاه حفظ أمن الخليج، وهو ما تمثل في تقديم الدعم الأساسي لإيران ومن ثم وبدرجة أقل إلى السعودية، وذلك من أجل توفير الأمن للمنطقة عبر إتاحة إمكانية وصول الحليفين الإقليميين إلى التجهيزات العسكرية بالإضافة إلى دعمهما على المستويين السياسي والاستخباراتي. لقد كانت إيران والسعودية تمثلان الدعامتين التوءمين، أو رجلي الشرطة التوءمين، اللذين يُقدَّم لهما الدعم لتأمين تحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية بالوكالة. وفي حين استمرت هذه الاستراتيجية حتى اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وعلى الرغم من التغيير والاضطراب في المشهد الجيوسياسي الذي شمل الحرب العراقية-الإيرانية (1980 -1988)، وغزو العراق للكويت، عام 1990، وغزو العراق، بقيادة أميركا، في العام 2003؛ فإن السمة المميزة للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة خلال هذه الفترة، كانت الحفاظ على منظورها الاستراتيجي المتمثل في التدفق الحر لإمدادات النفط من منطقة الخليج. لكن ظهر سياق مغاير مع انتخاب الرئيس، دونالد ترامب، الذي غلب الطابع الانعزالي على منظور سياسته الخارجية العالمية، حيث باتت السياسة الخارجية الأميركية مع إدارته "وطنية" أكثر منها "عالمية". في الواقع، ومع صعود الولايات المتحدة كأكبر منتج للنفط في العالم، والذي حققت معه استقلالها في مجال الطاقة، بات من الواضح أن الحسابات الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، وخاصة منطقة الخليج، قد انتهجت سياقًا جديدًا يُتوقع أن يؤدي إلى تعزيز ديناميكية جديدة للسياسة الخارجية الأميركية.

الحجة الأهم هنا هي أن عوامل الاستقلال الأميركي في مجال الطاقة، المشار إليها أعلاه، مُضافًا إليها هيمنة قيم سياسة البيت الأبيض الانعزالية القومية -وهي كلها عوامل متضافرة يعزز بعضها البعض- من شأنها أن تسهم أكثر في دفع الولايات المتحدة إلى التردد في لعب دور المتدخل في قضايا المنطقة الداخلية من أجل تعزيز السلام والأمن في منطقة الخليج. كما أنه يجب الاعتراف هنا بأن صلاحيات تحديد السياسة الخارجية للولايات المتحدة تقع على عاتق مؤسسة الرئاسة، وهو ما يكرسه الدستور الأميركي. وعلى هذا الأساس، فإن الأهمية الكبرى لصعود الولايات المتحدة باعتبارها أكبر منتج للنفط الخام في العالم، في عام 2018، هو أنه خلال فترة رئاسة ترامب، وبالنسبة للعام 2019، من المتوقع أن يزداد حجم ونسق التردد الأميركي في الانخراط السياسي المباشر في منطقتي الشرق الأوسط والخليج. في الخلاصة، فإنه من المتوقع بالنسبة للعام 2019 أن يستمر هذا التوجه في إبعاد الولايات المتحدة عن المساعدة في حل مشكلة انعدام الأمن الإقليمي بشكل استباقي.

فترة رئاسة ترامب: من المصالح الاستراتيجية إلى الحسابات المتبادلة 

عندما تولى الرئيس، دونالد ترامب، منصبه رئيسًا للولايات المتحدة، في يناير/كانون الثاني من العام 2017، كان القادة الإقليميون يدركون أصلًا أن الرئيس الجديد كان يوجه انتقادات صريحة، خلال حملته للانتخابات الرئاسية، إلى الرئيس، أوباما، ووزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون. واستنادًا إلى القرارات التي اتخذتها إدارة أوباما، فإن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة لم يروا فقط أن اهتمام واشنطن كان يتجه نحو محور آسيا، بل إنه أيضًا توجَّه صوب إيران مما أربك توازن القوى الإقليمي. لقد أدت القرارات السياسية التي اتخذتها إدارة أوباما إلى تقويض الثقة التي كانت لدى حلفاء أميركا الإقليميين بأن واشنطن شريكهم الثابت. وفي الوقت الذي كان فيه انتخاب دونالد ترامب يبعث على الانقسام في الداخل الأميركي، فإن رد الفعل في المنطقة، ونظرًا لمعارضة ترامب الصريحة للاتفاق النووي الإيراني وإدانة الوكلاء الإيرانيين في إطار موقفه المؤيد لإسرائيل، جعل وصوله إلى البيت الأبيض موضع ترحيب من قبل الشركاء الإقليميين -مثل المملكة العربية السعودية- الذين كانوا يعتبرون أنفسهم محاصرين، على نحو متزايد، في صراع وجودي مع إيران. إضافة إلى ما تقدم، وبالنظر إلى الخلفية التجارية لساكن البيت الأبيض الجديد، فقد توفرت كل الشروط لتوقع أنه يمكن أن يكون شريكًا جديدًا. عادة ما يتم إيلاء أهمية كبرى لأول بلد يختار رؤساء الولايات المتحدة زيارته بعد انتخابهم، وفي حالة ترامب، كان ذلك البلد هو المملكة العربية السعودية (1) .

كان هناك جانبان متميزان لهذه الزيارة الافتتاحية إلى السعودية في عهد رئاسة ترامب يستحقان الوقوف عندهما في هذا السياق: الجانب الأول هو توقيع صفقة أسلحة ضخمة مع المملكة العربية السعودية بلغت أكثر من 350 مليار دولار، واعتُبرت أكبر صفقة أسلحة في التاريخ. من المؤكد أن هذا الرقم تم تضخيمه بسبب أنه يشمل أصلًا اتفاقات موقعة سابقًا، بالإضافة إلى تضمنه أيضًا نوايا لعقد صفقات شراء أسلحة في المستقبل أكثر من صفقات شراء فعلية. ومع ذلك، فإن تلك الصفقة برمتها اعتُبرت إنجازًا سياسيًّا لترامب نظرًا لأن انتخابه كان مستندًا في الأساس إلى دواع قومية اقتصادية. أما الجانب الثاني، وهو الأكثر أهمية في هذه الزيارة الافتتاحية، فهو عقد قمة دولية في المملكة العربية السعودية فسحت المجال أمام ترامب لمخاطبة قادة أكثر من 50 دولة عربية وإسلامية، باستثناء دول إيران وسوريا والسودان. وقد ركز ترامب، في كلمته الرئيسية، على الاعتماد على الدول الإقليمية في تولي مسؤولية "طرد" الإرهاب من بلدانهم وإعادة ضبط الموقف الأميركي في المنطقة بما يسمح لكل دولة برسم مسارها السياسي الخاص بها، وهو موقف فيه تخل واضح عن المبادئ المثالية التي كانت تحكم، تقليديًّا، بوصلة السياسة الخارجية الأميركية الداعمة للديمقراطية والحرية. في الحقيقة، تعددت الآثار الجيوسياسية المترتبة على اجتماع القمة بين الرئيس ترامب وقادة وممثلي غالبية الدول العربية والإسلامية؛ فقد أكدت القمة على دعم الولايات المتحدة لمواجهة إيران باعتبارها دولة منبوذة على المسرح الدولي، وهو ما اعتُبر انقلابًا واضحًا على موقف أوباما من التعامل مع إيران. كما غذَّت مواقف ترامب خلال القمة التوجه الجيوسياسي المناهض لإيران، والذي كانت وتيرته ترتفع بشكل ملحوظ، داخل أورقة الحكم في المملكة العربية السعودية ولدى حلفائها منذ سقوط العراق وطالبان في أفغانستان.
مرفق pdf لقراءة الدراسة كاملة