»

العنف ضد قبائل الفلان.. إلى أين تتجه منطقة الساحل الإفريقي؟

24 نيسان 2019
العنف ضد قبائل الفلان.. إلى أين تتجه منطقة الساحل الإفريقي؟
العنف ضد قبائل الفلان.. إلى أين تتجه منطقة الساحل الإفريقي؟

مركز الجزيرة للدراسات

أصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "العنف ضد قبائل الفلان.. إلى أين تتجه منطقة الساحل الإفريقي؟" إرتأى المركز نشرها للإطلاع عليها والإستفادة منها كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى وجهات النظر أو المصطلحات الواردة فيها تطرح مجموعات البدو المهمشة في الساحل الإفريقي كالطوارق والعرب والفلان والتوبو والكانوري وغيرها إشكالية عميقة تستنطق علاقاتها مع الدول ومع المجموعات العرقية الأخرى المكونة لتلك الكيانات الوطنية. وقد أظهرت المجازر التي تعرض لها الفلان في مالي ضرورة دراسة المسألة واقتراح حلول شاملة وتوافقية لها.

تعرف منطقة الساحل الإفريقي الممتدة من موريتانيا غربًا إلى تشاد شرقًا، حالة أمنية معقدة منذ ظهور الحركات المسلحة العنيفة ذات الخلفية الدينية المعروفة عاميًّا بـ"الجهادية"، مع مطلع الألفية الحالية. وقد تفاقم الوضع، وبشكل محموم، بعد انهيار النظام الليبي ومقتل العقيد، معمر القذافي، في أكتوبر/تشرين الأول 2011، مما أدى إلى تدفق كبير للمقاتلين وللأسلحة بشكل لافت إلى المنطقة وأحيا فتيل بعض حركات التمرد، خاصة في الشمال المالي. وفي تحالف مرحلي قصير بين "الجهاديين" وتلك الحركات، خاصة الحركة الوطنية لتحرير أزواد، تمت السيطرة على منطقة الشمال المالي سنة 2012. وأعلنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد انفصال الشمال في أبريل/نيسان 2012. وكادت العاصمة باماكو نفسها أن تقع تحت "الاحتلال"، لولا أن فرنسا قررت التدخل، في يناير/كانون الثاني 2013، عبر قوة عسكرية سريعة الانتشار. وشتَّت الحضور العسكري الفرنسي قواعد "الجهاديين" الذين كانوا يقاتلون ميدانيًّا سواء في صفوف قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي أو حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا (المعروفة في الأدبيات الفرنسية باسم ميجاو) أو حركة أنصار الدين أو بعض الميليشيات المحلية المتحالفة معها أو المحسوبة على إحداها. كما حصر التدخل الفرنسي الحركات السياسية المتمردة في زاوية لم تتمكن من الخروج منها إلا بشق الأنفس؛ فلجأت تلك الحركات إلى المصادقة على اتفاق للسلام، عُرف باتفاق الجزائر، وُقِّع في 15 يونيو/حزيران 2015، تحت رعاية دولية.

وقد أدى بطء الدخول الفعلي في ترتيبات تطبيق اتفاق الجزائر إلى حالة من الارتباك السياسي والأمني وإلى تشعب للأزمة المالية على مستوى الداخل مع انعكاسات خطيرة على كافة دول المنطقة.

الطريق إلى باماكو وإقحام الفلان في الأزمة
انسحب الجيش المالي بسرعة أمام جحافل الكتائب "الجهادية" والوحدات الانفصالية من كافة مناطق الشمال، واختفت مع انسحابه كل مظاهر الدولة بعد الرحيل الكلي للإدارة المالية منها. وبذلك أصبحت منطقة موبتي، وسط البلاد، آخر مجال لحضور رموز السيادة المالية في تلك التخوم، فأضحت خطًّا فاصلًا بين الشمال والجنوب الماليين، بل إن "الجهاديين" وحلفاءهم جعلوا من مدينة كونا، وهي على بعد عشرات الكيلومترات من موبتي، نقطة متقدمة لوجودهم. ومن كونا، المأهولة بأغلبية من الفلان، بدأ التخطيط للتقدم نحو باماكو. وفي خضم ذلك التخطيط، تم تجميع كافة المقاتلين "الجهاديين" من غير العرب والطوارق ممن يمكن تسميتهم بـ"الجهاديين السود" في صفوف مختلف الحركات والكتائب "الجهادية" في كتيبة واحدة سميت بـ"كتيبة ماسينا لأنصار الدين"(1). وبما أن أغلبية مقاتلي تلك الكتيبة من قبائل الفلان (رغم وجود مقاتلين من البمبارا والسونغاي والدوغون والموسي وغيرها من القبائل الإفريقية)، عُهِدت قيادة الكتيبة الجديدة إلى الداعية الفلاني، محمدون سادا باري، المكنَّى بـ"محمدون كوفا"، الذي كان ينشط في صفوف حركة "أنصار الدين" التي تأسست قبل ذلك بأشهر تحت إمرة الزعيم الطارقي، إياد آغ غالي، المكنى بأبي الفضل. وتم التنظير لكتيبة ماسينا كواجهة محلية للعمل "الجهادي" في منطقة لم يكن الصيت والقيادة فيها للأفارقة بل للأجانب، خاصة من الجزائريين والموريتانيين وغيرهم من المقاتلين الوافدين، خاصة من الأقطار العربية(2).

تكتيكيًّا، كان يراد لكتيبة ماسينا أن تكون رأس حربة التقدم نحو العاصمة المالية، باماكو، جنوبًا. وفي تلك اللحظة، كتب "الجهاديون" -ربما عن غير وعي- فصلين مهمين سيحددان، لاحقًا، طبيعة التطورات الملازمة للأزمة المالية حتى الآن. ويتعلق الأمر هنا بالتدخل الفرنسي من جهة وإقحام عرقية الفلان في معمعان الصراع من جهة أخرى، كحاضر عرضي في الأزمة عند بدايتها، قبل أن يتحول الفلان إلى عنصر مستهدف بالدرجة الأولى في إطار سياسة مكافحة الإرهاب في مالي وفي أجزاء كبيرة أخرى من منطقة الساحل(3).

الميليشيات العرقية و"مقاولة الأمن"
عندما سيطر "الجهاديون" على الشمال وعلى أجزاء من وسط البلاد، استفحل التسيب الأمني وانتشر النهب بشكل واسع. واستهدف ذلك النهب، الذي كانت تؤطِّر له بعض الحركات المسيطرة على المجال، قطعان أبقار الفلان بشكل خاص، مما اضطر هؤلاء إلى التسلح للدفاع عن أنفسهم وحماية مواشيهم. ونظرًا للحضور اللافت لعناصر حركة التوحيد والجهاد (المكونة أساسًا من السكان المحليين من عرب الصحراء الرحل)، تحالفت القبائل الفلانية معهم، فاقتنى عناصرها السلاح وتم تدريب شباب الفلان على استخدامه على أيدي أعضاء حركة التوحيد والجهاد(4). وأثار هذا التطور حفيظة القبائل الإفريقية الأخرى المجاورة للفلان في المنطقة، خاصة من البمبارا والدوغون والبوزو. وتأسيسًا على العلاقة بين الفلان وحركة التوحيد، تولدت الصورة لدى أغلبية السكان من القبائل الأخرى بأن الفلان حلفاء للجهاديين. وزاد من ذلك الحكم التعميمي، الذي سيتحول فيما بعد إلى مسوغ للقتل الجماعي للفلان، بأنهم يعتبرون الحاضنة الاجتماعية والعقائدية للجهاديين من طرف العديد من الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين المحليين من القبائل المجاورة لهم(5). ولتبرير ذلك الموقف، يتحدثون عن كون الفلان شديدي الارتباط بالدين الإسلامي وعن تأثير الاسلام الواضح على نمط عيشهم وعلى حياتهم الثقافية وعلى سلوكهم في التعامل مع الآخر.

واستنادًا إلى التاريخ، يعتبر الفلان من القوميات التي أعطت الدعوة الإسلامية في القارة الإفريقية دفعًا معتبرًا؛ حيث حملوا راية الدعوة في مختلف أصقاعها وأسسوا ممالك ودولًا تتمثل نظام حكم الخلافة في العديد من دول منطقة الساحل حاليًّا وغيرها(6). ففي القرن الثامن عشر، أسسوا دولة دينية إسلامية في منطقة فوتا جالون بوسط غينيا كوناكري الحالية. وفي القرن التاسع عشر، وتحديدًا بين سنتي 1818 و1886، أسسوا إمبراطورية الفلان الإسلامية في ماسينا تحت قيادة الأمير شيخو آمادو باري، وامتدت سلطتها من الوسط المالي حاليًّا إلى منطقة تمبكتو شمالًا. وفي نفس الفترة تقريبًا، كان العلامة عثمان دان فوديو يقود الإمارة الإسلامية في سوكوتو والآداموا في نيجيريا والنيجر والكاميرون وأجزاء من تشاد حاليًّا. وغربًا، أسس الفلان ما بين 1776 و1890، إمارة إسلامية هي الدولة الإمامية في فوتا تورو في حوض نهر السنغال، حكمت مناطق عديدة من موريتانيا والسنغال الحاليتين بنهج الشريعة الإسلامية، كما قامت بإخضاع العديد من القبائل المجاورة في المناطق المتاخمة لمجال نفوذها للعقيدة الإسلامية وحكمها.

من جهة أخرى، كان الفلان رأس حربة التصدي بالقوة العسكرية والممانعة الروحية لدخول فرنسا وغيرها من القوي الاستعمارية للمنطقة(7). وبعد بسط الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني والبرتغالي لنفوذه على المجال الجغرافي الذي كانوا يحكمونه، ظل الفلان يعيشون في عزلة تمليها طبيعة حياتهم البدوية وضرورات الانتجاع وراء قطعان الأبقار التي تعتبر عنصرًا حيويًّا في ثقافتهم ومصدر رزقهم الأول. فطيلة العقود اللاحقة على فترة انهيار ممالكهم، عاش الفلان على هوامش مناطق نفوذ الاستعمار، متجنبين ما أمكن الاحتكاك به أو بحلفائه، مبتعدين عن مدنيته ومدارسه ومؤسساته. وظل ذلك الحذر هو السمة التي تطبع، في العديد من الدول، علاقات الفلان مع الحكومات المركزية في الدول الحديثة. وتقدِّر الإحصائيات أن عددهم يناهز 68 مليون نسمة متناثرين على أكثر من 18 دولة إفريقية تمتد من موريتانيا غربًا إلى السودان شرقًا ومن موريتانيا شمالًا إلى الكاميرون وجمهورية وسط إفريقيا جنوبًا(8).

يعتقد بعض المراقبين أن تخوف القبائل الإفريقية المجاورة من استيقاظ شكيمة الفلان واستعادتهم لنفوذهم واحتمال سيطرتهم مجددًا على المجال الحيوي للمنطقة عبر البوابة الجهادية، قد يكون أحد التفسيرات الواردة لعمليات القتل الواسعة والمذابح المتكررة التي يتعرضون لها على أيدي ميليشيات قبلية في وسط مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغيرها. ففي مالي، يبدو وكأن الأمر تكرار لتجربة ميليشيات "غاندا كوي" و"غاندا أيزو" التي نشطت بشكل دموي ضد الطوارق والعرب في الشمال المالي إبَّان حركات التمرد الأولى في بداية تسعينات القرن الماضي(9). ومنذ ذلك التاريخ، بدت ظاهرة العزف على أوتار التوترات المحلية واللعب على الخلافات بين المجموعات، الطريق الأقصر لتجييش الغرماء والقبائل وتأطيرها عسكريًّا وتأهيلها لفرض الأمن نيابة عن الدولة وبمباركة منها. وغالبًا ما يتم توظيف ذلك وتوجيهه ضد عرق محدد أو قبائل معينة. ويعتبر بعض المراقبين أن هذه الآلية تُعتمد في بعض المراكز العليا للقرار كنوع من الاستجابة للتحديات الأمنية والسياسية التي تواجه الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد.

شبح كتيبة ماسينا وفظاعة المذابح
بدأت عمليات كتيبة ماسينا في الوسط المالي سنة 2015 باستهداف الرموز التقليدية للفلان في المنطقة؛ حيث هدمت ضريح الشيخ أحمد بن أحمد الكبير، مؤسس الإمبراطورية الإسلامية لماسينا في مدينة حمد الله، العاصمة التاريخية للإمبراطورية. وبعد ذلك، عمدت إلى الضغط على المشايخ الصوفيين لحملهم على اعتناق الفكر السلفي ومطاردتهم أو تصفيتهم؛ مما حمل العديد منهم على اللجوء إلى باماكو أو غيرها للنجاة بأرواحهم. وبعد ذلك، عمدت إلى استهداف رموز الدولة وأعوانهم الذين غادروا المنطقة عمومًا، تاركين المواطنين من كل الأعراق والقبائل يواجهون الوضع بمفردهم، فأغلقت المدارس واختفت الخدمات الأساسية وغاب الأمن واستفحل التسيب وظهرت عصابات الجريمة المنظمة والحرابة مما أدى إلى تعطل عجلة الاقتصاد المحلي في أغلب مناطق وسط مالي.

وقد بدأت الوضعية تأخذ منحى خطيرًا مع سنة 2012 بتصفيات استهدفت السكان العزل من كافة الأعراق، بمن فيهم الدوغون، حيث تم اغتيال العديد من شيوخهم وتعطيل العمل في أراض زراعية كانوا يستغلونها. كما مُنع بعض صياديهم من الوصول إلى ضفاف نهر النيجر، المصدر المائي الحيوي الوحيد في المنطقة، وتُركت الأراضي الزراعية سائبة ومفتوحة ولم يعد ملاك قطعان الحيوان يحترمون مواسم الانتجاع ولا حدود المسالك والممرات التقليدية المحددة أصلًا لذلك(10). وأدت هذه الوضعية إلى تصاعد وتيرة التزاحم والتنازع الفوضوي حول الموارد الطبيعية التي تقلصت بشكل معتبر ولم يعد يستفيد منها إلا حملة السلاح أو من يحظون بمباركتهم، مما قاد إلى شلل تام للاقتصاد الريفي الذي يعتمد عليه السكان في حياتهم. وكنتيجة لذلك، انهارت قواعد التعايش السلمي بين المكونات واختلت كل موازين ترشيد الخلاف التقليدية المعروفة محليًّا، مع غياب تام لمرفق القضاء الذي هجر موظفوه المنطقة. وفي كل الأحوال، كان القضاء الرسمي محل انتقادات واسعة، حيث يتهمه السكان بالبطء وبانتشار الرشوة في أوساط مسؤوليه، مما أفقده كل مصداقية. واستبشر السكان خيرًا بحسبة "الجهاديين" وقضائهم عندما تمكنوا في الإقليم؛ حيث يعتبرونه "أسرع فصلًا في القضايا وأكثر عدلًا بين المتخاصمين وبعيدًا من الرشوة المعروفة لدى أعوان المرفق العمومي"(11).

ونظرًا للحضور القوي لعنصر الفلان في صفوف مقاتلي كتيبة ماسينا، بدأ بعض نشطاء القبائل الأخرى، خاصة عرقية الدوغون، التي يدين بعض أفرادها بالمسيحية كما أن من بينهم وثنيين، يعتبرون جيرانهم من الفلان حلفاء وأنصارًا لمقاتلي الكتيبة الجهادية الناشطة محليًّا. رويدًا رويدًا، اتجه الوضع، منذ سنة 2013، إلى إنشاء لجان للحماية وتوفير الأمن في القرى والتجمعات القروية للدوغون، وقودها مجموعات القناصة والصيادين البريين التقليديين، ولكن التحول الكبير سيحدث في شهر يونيو/حزيران 2016، عندما منحت الحكومة المالية ترخيصًا لرابطة القناصة البريين باسم "دانام آمباساغو" التي تعني باللغة المحلية "القناصة المتكِّلون على الرب" لترقية ثقافة القنص. وسرعان ما تحولت الرابطة إلى ميليشيات بنفس الاسم مع مكتب سياسي وجناح عسكري وقيادات ميدانية ونقاط تجمع لمقاتليها في مناطق ونقاط معروفة. وقد استُقبلت تلك القيادات على أعلى المستويات وتلقت التهاني الرسمية لـ"مساهمتها الفاعلة في حماية الأمن ومساعدة قوى الجيش في مواجهة الإرهابيين"(12).

ولمواجهة الوضع، حاول بعض النشطاء الفلان من موظفين وعلماء وباحثين وناشطين في الجمعيات الأهلية رفع اللبس حول الاتهامات الواسعة لمجموعتهم بالتحالف مع "الجهاديين"، محاولين إظهار حقيقة أن الفلان هم أكثر المجموعات اكتواء بنار العنف الذي تمارسه عناصر كتيبة ماسينا في المنطقة بتفكيكها للبنية التقليدية للمجتمع وتقسيمه وتجنيد الشباب وفرض مسلكيات جديدة على سكان القرى والتضييق عليهم وتفخيخ علاقاتهم مع المجموعات العرقية المجاورة. كما كانوا يشيرون إلى حضور مقاتلين من كافة أبناء المنطقة وعرقياتها في صفوف الكتيبة المذكورة(13). ولم يكن لتلك المناشدات والتفسيرات أي صدى، خاصة على مستوى مراكز القرار السياسي والأمني في باماكو. ولم يشفع للفلان ألبتة أن بعض المتطرفين من نشطاء الدوغون بدأوا يوظفون الوضع كذريعة لخدمة أجندات اجتماعية واقتصادية-سياسية محلية تقوم على ضرورة العمل على احتواء "المد الجهادي" في المنطقة من خلال إضعاف حضور الفلان وإجلائهم منها -إن أمكن- للاستحواذ على المساحات الرعوية والزراعية الشاسعة التي تعود ملكيتها للبعض منهم. فتكررت أعمال العنف ضد قراهم بأشكال متفاوتة، كانت تخلِّف ضحايا في الأرواح وتتخللها عمليات نهب للماشية.

بدأت ميليشيات الدوغون تستهدف المواطنين الفلان بشكل واضح من خلال العديد من المجازر، بدءًا بقرية "سوري"، سنة 2012، ثم قرية "كولوغون"، في بداية 2019، والتي خلَّفت أكثر من 37 قتيلًا وتم تدمير القرية بالكامل ونُهبت المواشي وأُلقي بالجثث في الآبار لتلطيخها وتسميمها، حتى لا تراود السكان فكرة العودة لبلدتهم. ونزح الناجون إلى موبتي وباماكو. ورغم إعلان الحكومة فتح تحقيقات حول تلك المجازر، إلا أنها لم تعلن حتى الآن أية اعتقالات ولا متابعات للجناة المفترضين، مما يعطي الانطباع بأن مرتكبي تلك المجازر يحظون بحماية على أعلى المستويات، تعفيهم من المتابعة وتضمن إفلاتهم من العقاب. وفي المقابل، تتواتر أنباء عن اعتقالات بالجملة في صفوف الفلان في نفس المنطقة بتهمة الإرهاب.

لقد أخذت المجازر ضد الفلان في منطقة وسط مالي منعطفًا خطيرًا مع مذبحة أوغوساغو الواقعة بدائرة بانكاس(14)، يوم 23 مارس/آذار 2019، عندما هاجمت ميليشيات يعتقد أنها من الدوغون "دانام آمباساغو"، تلك القرية في مسعى لإبادة جماعية لسكانها؛ فقتلت المدنيين العزل، بمن فيهم الأطفال الرضع والنساء الحوامل والعجزة من القوم. ويقول المحامي، الحسن باري: إن المهاجمين بدؤوا بذبح إمام مسجد القرية وشيخها أمام أعين والدته وعائلته، قبل قتل الجميع بالرصاص الحي وإحراق جثثهم بعد التمثيل بها وتقطيع أجزاء منها. وخلَّفت المجزرة، حسب المصادر الرسمية، أكثر من 160 قتيلًا وأكثر من 60 جريحًا. كما تم حرق 410 منازل و80 مستودعًا للغلات والمؤن وإبادة المئات من الحيوانات رميًا بالرصاص.

وكرد فعل أولي على المجزرة، أعلنت الحكومة المالية جملة من القرارات من ضمنها التعهد بفتح تحقيق محايد وتم حل ميليشيا "دانام آمباساغو"، يوم 24 مارس/آذار 2019، وإعفاء بعض قادة الجيش من وظائفهم ونشر وحدات عسكرية إضافية في المنطقة لحماية المدنيين والشروع في عملية نزع السلاح من كافة الفصائل والميليشيات الموجودة ميدانيًّا. وأعلنت ميليشيا "دا ام آمباساغو" رفضها لقرارات الحكومة جملة وتفصيلًا وعبَّر قائدها العسكري، يوسف تولوبا، عن "استعداد قوته للدخول في مواجهة مفتوحة مع الجيش المالي إن هو أراد نزع سلاحهم بالقوة"، مطالبًا "بتوفير آليات مقنعة للحوار وباحتواء حملة السلاح من الفلان في المنطقة"(15).

وحتى اللحظة ما زال الوضع الأمني في المنطقة مضطربًا مع تواصل لعمليات العنف ضد المدنيين، خاصة من الفلان مما أدى إلى هروبهم عن ديارهم وأموالهم. ويعيش أغلب أولئك الآن وضعية إنسانية مزرية، وسط عجز رسمي عن الاستجابة الملائمة وأمام تقاعس ملحوظ للهيئات الإنسانية الأجنبية المتواجدة في المنطقة، خاصة حيال عمليات حصار مفروضة على سكان عشرات من قرى الفلان في مركزي "كورو" و"بنكاس"، حيث لا يستطيع الفلان الخروج من قراهم للتزود من الأسواق الشعبية أو قضاء حاجات أخرى. ففي باماكو مثلًا، يعيش قرابة 120 عائلة من الفلان النازحين من قراهم في الوسط في مكان لتجميع القمامة في حي "فلاجي" منذ قرابة عام، دون مبادرة لانتشالهم من الجوع والمرض والموت اليومي للأطفال الذي يلازمهم. ويتكرر نفس السيناريو في كافة أماكن تواجد النازحين الفلان داخل البلاد، كما هي الحال في "موبتي" و"سيكو". كما يعيش الآلاف منهم وضعية اللجوء القسري في دول الجوار، خاصة بوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا، هربًا من بطش ميليشيات الدوغون أو بعض المجموعات المسلحة من الطوارق كـ"الغاتيا" أو "حركة خلاص أزواد" المدعومة من القوات الفرنسية أو من عناصر الجيش المالي أو خوفًا من إرهاب الجماعات المسلحة الأخرى(16).