»

البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية: الواقع والنموذج

17 نيسان 2019
البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية: الواقع والنموذج
البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية: الواقع والنموذج

موقع الجزيرة للدراسات

أصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية: الواقع والنموذج" إرتأى المركز نشرها للإطلاع عليها والإستفادة منها كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر أو المصطلحات الواردة في الدراسة ترصد الدراسة واقع الاستثمار في مجال الصحافة الإلكترونية وتحدياته في سياق بيئة اتصالية رقمية جديدة،وتُقدِّم نموذجًا اقتصاديًّا يظل نجاحه رهينًا بأداء العاملين في المؤسسة الإعلامية الإلكترونية والقائمين على أمرها انطلاقًا من وعي اقتصادي يجعل إعداد المحتوى والشكل أكثر تلبية لاحتياجات المتلقي/المستهلك.

مقدمة

أصبحت وسائل الإعلام، بفضل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، أكثر قدرة على الوصول إلى جماهيرها من خلال تقنيات الطباعة عن بُعد أو توسيع نطاق البثِّ الإذاعي والتلفزي، فضلًا عن سهولة تلقي الرسائل التواصلية؛ ومن ناحية أخرى، أسهمت التكنولوجيات الجديدة في تقليل تكلفة المنتج الإعلامي، وزيادة مداخيل المؤسسات الإعلامية. ومع ظهور شبكتي الإنترنت والويب، دخلت وسائل الإعلام عصرًا جديدًا يُبشِّر بإعلام جديد تتغير فيه اقتصاديات صناعة الإعلام، وتتغير فيه مفاهيم الجمهور والتفاعلية وحراسة البوابة والسبق الصحفي وغيرها من المفاهيم التي رسَّخت العمل الإعلامي خلال القرون السابقة. وقاد هذا التغيير إلى تعزيز البعد البيئي لوسائل الإعلام ضمن محيطها من حيث التأثير والتأثُّر. لقد تأثرت الصحافة العربية -مثلها مثل الصحافة في بقية العالم- بالتغييرات التي أحدثتها ثورة الإنترنت في صناعة المواد الإعلامية؛ حيث بدأ التحول من النشر التناظري إلى النشر الرقمي يبيِّن الفروق في التكاليف البشرية والمالية التي تغري بالتحول نحو الرَّقْمَنَة.

هكذا تبدو وسائل الإعلام مضطرة للتخلي عن بيئتها وشكلها القديم، والتأقلم مع البيئة الرَّقْمِية بعد أن بدأت منابع دخلها تنضب؛ ويتحوَّل جمهورها من متلقٍّ مستهلك إلى متواصل متفاعل؛ وينجذب المعلنون نحو البيئة الرقمية القادرة على تحقيق الأهداف بتكلفة أقل وفعالية أكبر.

إن التحول من الصحافة الورقية إلى الصحافة الإلكترونية - سواء كان تحولًا جزئيًّا أو كاملًا - أو الانطلاق من بيئة الإعلام الجديد، يستدعي الوقوف على الجوانب الاقتصادية التي تصنع القرار الاستثماري وتحدد الجدوى؛ ذلك أن البيئة التي تعمل فيها الصحافة الإلكترونية تتميز بخصائصها الاقتصادية المستمدة من الأثر الاقتصادي للرَّقْمَنَة في كافة مجالات الحياة، والمتمثلة في التوازي بين كفاءة الأداء وتقليل التكلفة.

في خضم هذه البيئة الجديدة، تبرز الصحافة الإلكترونية العربية كتحدٍّ للصحافة الورقية التقليدية ضمن مسعاها للحلول محلها وحمل راية الإعلام عنها، بدلًا من الاستسلام لتغوُّل مكونات الإعلام الجديد الأخرى (وعلى رأسها شبكات التواصل الاجتماعي الرقمي) التي أحدثت خللًا في بنية التواصل الجماهيري بكافة وسائله.

من هنا، تنطلق هذه الدراسة للنظر في الجوانب الإيكولوجية للاقتصاديات المؤسِّسة للنشاط الإعلامي وهو يمر بمنعطف يكاد يُحدِث قطيعة مع الماضي من حيث مفاهيم الإنتاج والاستهلاك والبيع. منعطف يُقدِّم موقع الويب بديلًا للكتاب والصحيفة والمجلة والمذياع والتلفاز، مُسْتَغْنِيًا عن الورق والأثير والأقمار الاصطناعية، ومُعَزَّزًا بصداقته للبيئة واستثماره الأقصى للموارد المالية والبشرية، الأمر الذي يجعل إيكولوجيا الإعلام مفهومًا أكثر تداولًا في فضاءات الإعلام العربي.

كما ينظر الفصل في إمكانية إيجاد نموذج عملي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية قابل للتطبيق ضمن بيئة تواصلية تهيمن فيها وسائل التواصل الاجتماعي على اهتمامات المتواصلين وتسعى لتمكينهم من الحصول على الرسائل التواصلية الإعلامية بتكلفة تقترب من الصفر. تلك الرسائل الإعلامية التي كانت حكرًا على وسائل الإعلام التقليدية تبيعها للجمهور بكيفية مباشرة أو غير مباشرة (عبر الإعلانات)، ولم تعد هذه العلاقة بين وسائل الإعلام التقليدية والجمهور قابلة للاستمرار في المستقبل البعيد أو المتوسط.

1. البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية

شهدت ستينات القرن الماضي ظهور مفهوم إيكولوجيا الإعلام وانتشاره كنتاج للعلاقة الجدلية التي تجمع بين المجتمع والإعلام، باعتبار أن هذا الأخير لا ينفك يتمظهر من خلال مجموعة من التكنولوجيات التي تغير نمط حياة المجتمع.

ونستند في فهمنا لإيكولوجيا الإعلام على تعريف نيل بوستمان (Neil Postman) -وهو أحد أبرز المهتمين بإيكولوجيا الإعلام- الذي يركز على دراسة وسائل الإعلام باعتبارها بيئات، عندما تؤثر هذه الوسائل على إدراك الناس وفهمهم ومشاعرهم وقيمهم (1).

إن النظر إلى اقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية يقود إلى تبيان طبيعة تفاعلها في المجتمع من حيث التكنولوجيات المستخدمة والآثار الاجتماعية والبيئية التي تتركها على الفضاء الإعلامي. ذلك أن النموذج الاقتصادي الذي تتبعه الصحافة الإلكترونية -باعتبارها ضربًا من ضروب الإعلام الجديد- يحمل في طياته التغييرات التكنولوجية التي تنعكس بدورها على الجوانب الاجتماعية والبيئية.

هكذا يمكن البحث في البعد الإيكولوجي لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية من خلال استصحاب التغيرات التي تحدثها عمليات الانتقال من ممارسات الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد عندما تحل الرقمنة محل التناظرية وينشأ نظام اقتصادي جديد يستند إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصالات.

تتجلى أبرز الأبعاد البيئية لاقتصاديات الصحافة الإلكترونية، في الآتي:

- التخلص من صناعة الورق المكلفة على المستويين المادي والبيئي، وتجاوز محدودية انتشاره مقارنة بانتشار الرسائل التواصلية الرقمية المبثوثة عبر شبكتي الإنترنت والويب. 

- المرونة الكبيرة في انتشار محتويات الصحافة الإلكترونية التي يسهل تداولها عبر النسخ واللصق والتمرير والمشاركة.

- الاستخدام المفرط للجهاز الإدراكي البشري من خلال شيوع رسائل الوسائط المتعددة، الأمر الذي يجعل الشاشة -بما ينتج عنها من تأثيرات صحية على أجسام المستخدمين خاصة صغار السن- تبدو كامتداد طبيعي لجسد الإنسان المعاصر قد لا تفارقه حتى في حالات النوم.

- تغيير نمط الممارسة الإعلامية من خلال تبنِّي فكرة الصحافي الشامل الذي تتوفر له أدوات الكتابة والتحرير والإنتاج والتوزيع لكافة الوسائط التواصلية (النص والصور والصوت والحركة) المستخدمة في مختلف أنواع الرسائل الإعلامية، الأمر الذي يخلق تحديًّا كبيرًا للجيل القديم من الصحافيين ويجبرهم على الاندماج في البيئة الرقمية وصلًا للعطاء.

- تغيير نمط العلاقات الإنسانية حيث يتجلى البعد الإيكولوجي في أوضح صوره.

- التغيير الذي قد يطرأ على وظائف الدماغ البشري من خلال تهميش دور الذاكرة في وجود الأجهزة الرقمية المحمولة القادرة على البحث عن المعرفة في أكبر مكتبة معرفية (شبكة الويب) وتقديمها بسرعة تضاهي سرعة الذاكرة الشرية وتَبُذُّها في كثير من الأحيان. فضلًا عن التطور الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يهدد بنمو الذكاء البشري الطبيعي، الأمر الذي قد يؤدي إلى وجود أجيال مرتهنة للآلة بشكل شبه كامل ومفتقرة للإبداع القادر على التحكم في الآلة وتوظيفها لخدمة مستقبل البشرية.

على الرغم من مقاومة الصحافة العربية التقليدية لإكراهات التحول نحو فضاءات الصحافة الإلكترونية والتخلي عن بنيتها التحتية وتقاليدها المهنية، فإنها تسير في اتجاه التأقلم مع الواقع الجديد الذي بدأ يفرض ذاته على القطاع الإعلامي على الصعيد العالمي.

فهناك مجموعة من الإكراهات التي تواجه الصحافة التقليدية وتجبرها على أن تستجير ببيئة الصحافة الإلكترونية أملًا في البقاء؛ إذ تشير بعض الدراسات إلى تأثر الصحافة العربية الورقية سلبًا بزيادة ولوج القراء العرب لشبكة الإنترنت، الأمر الذي أدى إلى تقلُّص توزيع الصحف العربية واندماج بعضها في كيانات أكبر وإغلاق بعضها في أسوأ الحالات (2).

إن التحولات الاقتصادية المرافقة لنمو قطاع الصحافة الإلكترونية العربية على حساب الصحافة الورقية التي ترسخت أقدامها خلال القرن الماضي، تمس بنية ملكية وسائل الإعلام واحتكار دور الناشر لتفتح الأبواب واسعة أمام قطاع عريض من الإعلاميين والصحافيين المواطنين لامتلاك وسائل إعلام إلكترونية وممارسة النشر بكيفية لم تكن متاحة من قبل؛ وتمس قطاع الإعلان -المورد الرئيس للصحافة الورقية- من حيث تقديم البدائل الأرخص والأجود على صعيد الانتشار الذكي واستهداف الجمهور المخصوص؛ وتمس المحتوى الإعلامي الذي يتحول من سلعة تُباع إلى خدمة تُقدم مجانًا أو بثمن رمزي.

لقد مهدت التجارب العالمية الرائدة في تأقلم الصحافة التقليدية مع واقع الصحافة الإلكترونية، وما تبشر به من تغيرات إيكولوجية شاملة، للصحافة التقليدية العربية أن تسلك طريق الانتقال السلس للبيئة الرقمية خاصة في ظل النقلة البطيئة لبعض القراء من الورق إلى الشاشة.

ويبقى هذا الانتقال السلس رهينًا بإدراك الخصائص الكامنة للصحافة الإلكترونية، والتعاطي السياسي الرشيد مع تبعات البيئة الرقمية كحرية التعبير وحقوق الإنسان في ممارسة التواصل الإعلامي والحصول على المعلومات بغض النظر عن إمكانياته المادية والمعرفية.

2. واقع اقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية وهيكلة القطاع

إن الحديث عن واقع اقتصاديات الصحافة الإلكترونية العربية يمر من خلال التعرف على اقتصاديات الصحافة الإلكترونية على الصعيد العالمي، والأخذ في الاعتبار الخصوصيات الاقتصادية للبلدان العربية. والثيمة الأبرز في تناول اقتصاديات البلدان العربية، هي الفرص الواعدة بسبب بطء التحديث ومواكبة التطور الاقتصادي العالمي الذي قطع أشواطًا بعيدة في دروب اقتصاد المعرفة.

لقد شيَّدت وسائل الإعلام بصفة عامة والصحافة بصفة خاصة خلال القرون الماضية نماذج اقتصادية يتم اتباعها في الحفاظ على ديمومة الوسيلة الإعلامية وقدرتها على المنافسة. وبينما تتشابه طرق إنفاق غالبية وسائل الإعلام، فإنها قد تتباين في طرق الحصول على مداخيلها. ويأتي الاختلاف في النماذج الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية، من اختلاف الأنظمة السياسية-الاقتصادية للدول التي تستضيف الوسيلة الإعلامية؛ ومن طبيعتها الاقتصادية: ربحية أو غير ربحية؛ ومن ملكيتها: مملوكة للدولة أو القطاع الخاص، أو المجتمع المدني.

إن السمة الرئيسة لنماذج اقتصاديات الإعلام، تتمثَّل في خصوصية المنتج الإعلامي، وخصوصية الحاجة إلى استهلاكه؛ فالمنتَج الإعلامي يمكن الحصول عليه عبر الشراء بالمال، أو مجانًا إذا وفَّرته المؤسسة الإعلامية مجانًا أو من خلال التمرير وإعادة التدوير أو إعادة الترميز والنشر. كما أن الحاجة لاستهلاك المنتج الإعلامي تختلف عن الحاجة لاستهلاك المنتجات الضرورية والكمالية، من حيث كون المنتجات الإعلامية سلعًا وخدمات غير ملموسة. من هنا نجد أن رواج استهلاك المنتجات الإعلامية يختلف باختلاف المجتمعات وفقًا لمقاييس الدخل الفردي، ودرجة النمو، والمستوى التعليمي، والديمقراطية المجتمعية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير. كما تتمثَّل خصوصية المنتج الإعلامي في أن جودته أو رداءته، ونفعه أو ضرَّه يتحددان وفقًا لبنية المجتمع المستهلك والأنظمة الثقافية والسياسية والقانونية التي تتحكَّم فيه؛ فقد ترى الأنظمة السياسية المستبدة في رداءة المنتج الإعلامي جودة.

تنعكس هذه الخصوصية على الاستثمار في المجال الإعلامي؛ فقد تجد مؤسسة إعلامية تحقق أرباحًا طائلة ليس بسبب جودة منتجاتها، بل بسبب تبعيتها للنظام الحاكم الذي يغدق عليها بمداخيل الإعلانات، أو مداخيل الاشتراكات، فضلًا عن الدعم المادي المباشر وغير المباشر. وقد تجد مؤسسة إعلامية تُقدِّم منتجات رديئة وتراكم الخسائر عامًا بعد عام، وعلى الرغم من ذلك تستمر في العمل لما تلقاه من دعم من النظام الحاكم.

أدت التحولات التكنولوجية والديمغرافية والاقتصادية إلى بروز نماذج اقتصادية جديدة لوسائل إعلامية إخبارية تتخذ من شبكة الإنترنت فضاء للانتشار؛ إذ غيَّرت هذه النماذج سلاسل الإنتاج والتوزيع التي تتبعها صناعة الصحافة الورقية؛ فقد سهَّلت الشبكة ظهور وسطاء وفاعلين جدد في مجال النشر والتوزيع مثل مجمِّعي الأخبار الإلكترونية (Online News Aggregators)، وناشري الأخبار الإلكترونية والوسطاء المختصين في الأخبار عبر الموبايل (Mobile News)(3).

فعلى مستوى الإنتاج، نجد أن تكنولوجيا الإنترنت أسهمت في تقليص التكلفة الحدية لدرجة جعلتها تقترب من الصفر؛ ذلك أن ارتفاع استهلاك المادة الإعلامية لا يتبعه ارتفاع التكاليف باعتبار أن التكاليف تقتصر فقط على النسخة الأولى التي يتم تحميلها، وعندما ترتفع عمليات التنزيل (الاستهلاك)، فلا يترتب على المنتج تكلفة إضافية (4). ويتزايد العائد الاقتصادي من تزايد عمليات استهلاك المادة الإعلامية الرَّقمية باعتبارها أصولًا غير ملموسة لا تفنى باستهلاكها وهي قابلة للاستنساخ (5)، كما أن عملية الاستنساخ لا تؤثِّر على جودة المنتج؛ لأن الأصل هو النسخة ولا فرق بينهما.

أما على مستوى التوزيع، فإن تكنولوجيا الإنترنت قدمت نمطًا للتوزيع يتخطى الحواجز القطاعية والجغرافية، باعتبار أن الصحافة الإلكترونية تنتشر في فضاء الويب الذي يتسم بطبيعته العالمية، متحديًا حرَّاس البوابة التقليديين ومُفْسِحًا المجال لوسطاء جدد (6). فكل ما يظهر عبر شبكة الويب، يظل متاحًا للمتلقي في أي مكان في العالم تتوفر فيه شبكة الإنترنت، وعلى مدار الساعة.

لقد تغير واقع الاستثمار الإعلامي من صعوبة إنشاء المؤسسات الإعلامية، والوقت الطويل نسبيًّا للوصول إلى مرحلة تحقيق الأرباح، إلى سهولة النشر عبر شبكة الويب (الذي يمتد من شبه المجانية إلى التكلفة التي تحتاج رأسمالًا مؤسسيًّا)، والسرعة في الانتشار وتحقيق الأرباح. فعلى سبيل المثال، إذا نظرنا إلى المجلة الأميركية الرياضية المشهورة (Sports Illustrated)، نجدها احتاجت عشر سنوات على الأقل لكي تصل إلى الوصفة السحرية التي تجعلها تحقق الأرباح؛ بينما احتاج الموقع الإعلامي المعروف هافينغتون بوست (Huffington Post) لأقل من ست سنوات ليتحول من فكرة إلى مؤسسة تقدر قيمتها بـ 315 مليون دولار عندما تم بيعها لأميركا أونلاين (AOL) عام 2011(7).

تتسم اقتصاديات الإعلام الرقمي بصفة عامة والصحافة الإلكترونية بصفة خاصة بما يُسمَّى بـ"الطابع غير المحدود لاقتصاديات الوفرة أو الحجم الكبير". فطالما أن تزايد عمليات تلقي المادة الإعلامية لا يترتب عليه تكلفة إضافية، وأن غالبية التكاليف تكون في مرحلة ما قبل الإنتاج، تظل هذه التكاليف ثابتة وكل ما زاد الاستهلاك قلَّت التكاليف ومن ثم زادت الأرباح (8).

إن الاستثمار الجيد في مجال الصحافة الإلكترونية، يستدعى تغيير النظر إلى المنتجات الإعلامية من كونها سلعًا تباع (كالصحيفة والمجلة) إلى خدمة تقوم على تزويد المتلقي/المستهلك بالمعلومات (9). ذلك أن المعلومة لها خصائصها التي تميزها عن بقية المنتجات، ليس فقط لكونها غير ملموسة، بل لأن كيفية الاستفادة منها تختلف عن كيفية الاستفادة من المنتجات الأخرى. فالمعلومة -خاصة إذا كانت رقمية- لا تفقد قيمتها بالتقادم أو ظهور معلومات أجدَّ؛ وعندما توضع في الأرشيف، فهي تظل كذلك صالحة للاستخدام ومتوفرة من خلال محركات البحث، وقد تدرُّ دخلًا مستمرًّا طالما أن هناك من يطلبها. بينما تنتهي الصلاحية الاقتصادية للصحيفة أو المجلة الورقية بعد ساعات أو أيام من طرحها في الأسواق وظهور الأعداد الجديدة فتفقد قيمتها وتصبح مرتجعات (قد تُباع بثمن بخس).

يختلف الفاعلون في مجال اقتصاديات الإعلام الجديد عن نظرائهم في مجال الإعلام التقليدي. فالفاعلون الجدد هم: مزوِّدو المواد الإعلامية الإلكترونية، ومحركات البحث التي تقدم خدمة تجميع الأخبار والمعلومات، ومنصات الويب المتخصصة في الخدمات الإخبارية، وشبكات التواصل الاجتماعي، والمزودون الذين يقصرون خدماتهم على الأخبار عبر الموبايل، ومجموعات الإعلانات عبر الإنترنت والويب، وغيرهم (10).

3- النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية العربية وفرص التطوير 

يبدو النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية العربية واعدًا بحكم تباين الاقتصاديات العربية، وتباين توظيفها الاقتصادي للتقنيات الرقمية، الأمر الذي يجعل هذه الصحافة في مسيس الحاجة لنموذج اقتصادي يأخذ في الاعتبار شريحة من المتواصلين يبلغ عددهم مئات الملايين يتشاركون اللغة والثقافة وبعض العادات الاستهلاكية والإنتاجية.

1.3. ملامح النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية 

أخذًا في الاعتبار، أثر تكنولوجيا الإنترنت والويب على الحقل التواصلي بصفة عامة والإعلامي بصفة خاصة، تبدو ملامح النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية أكثر اندماجًا وانفتاحًا نحو الخدمات التي تستجد تماشيًا مع ظهور التكنولوجيات الجديدة.

فهناك توجه نحو إنتاج الأخبار منخفضة التكلفة ذات القيمة الترفيهية، والتي تغري المعلنين؛ فقد أدى البحث عن تعظيم الأرباح إلى المساس بجودة المادة الخبرية وتغيير طبيعتها؛ إذ أصبح نجاح القصة الخبرية معتمدًا على العائد الإعلاني المرتبط بعدد المشاهدات والنقرات التي يقوم بها متصفحو الموقع (11).

يتسع تأثير تكنولوجيا الإنترنت على النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية ليشمل الأسئلة الرئيسة التي تشكِّل العملية التواصلية الإخبارية؛ فقد قدَّم جيمس هاملتون (James T. Hamilton)، أستاذ الإعلام بجامعة ستانفورد، عام 2004، محتوى موازيًا للأسئلة الخمسة التي تساعد الإجابات عليها المحررين في اتخاذ القرارات المتعلقة بمحتوى القصة الإخبارية، وهذه الأسئلة (12) هي:

- من يهتم بالمادة الإعلامية المخصوصة؟

- كم سيدفع للحصول عليها؟

- أين يمكن أن تجد وسائل الإعلام المهتمين بالمادة الإعلامية؟

- متى يصبح تقديم المادة الإخبارية مربحًا؟

- لِـمَ تصبح المادة الإخبارية مربحة؟

يستفيد النموذج الاقتصادي للصحافة الإلكترونية من مآلات الصحافة المطبوعة التي بدأت تعاني، منذ ظهور شبكة الويب وتمكينها لجماهير وسائل الإعلام من ممارسة النشر وإنتاج المواد الإعلامية؛ الأمر الذي جعل تداول النتاج الإعلامي أكثر يسرًا وأقل تكلفة. وقد أصاب السوق الإعلامية ما يمكن تسميته بـ"سوق الليمون" حسب مفهوم جورج آرثر أكرلوف (George A. Akerlof)، والذي يشير إلى الأسواق التي يكون فيها لدى المشترين معلومات عن جودة المنتج أقل كثيرًا من تلك التي لدى البائعين. وبما أن المشترين في وضع لا يسمح لهم بالحكم على جودة المنتج، تقل رغبتهم في شراء المنتج؛ الأمر الذي يدفع البائعين إلى تقديم منتجاتهم بسعر منخفض لحث المشترين على الشراء، مما يتسبب في إخراج أصحاب المنتجات الجيدة وغالية الثمن من السوق (13).

ترتبط اقتصاديات الصحافة الإلكترونية ارتباطًا وثيقًا بخدمة البحث التي تُقدِّمها شبكة الويب؛ فخلافًا لإعلانات الصحافة المطبوعة التي يكون فيها المحتوى هو الأساس والإعلان تابع، فإن محركات البحث دخلت كمكِّون رئيس بين المحتوى الإعلامي والمتلقي؛ إذ غالبًا ما يلجأ المتلقي إلى محركات البحث لتقوده إلى المحتوى الذي يرغب فيه. وابتداء من مارس/آذار 2009، شرع محرك البحث غوغل، الأكثر شهرة، في وضع إعلانات في المحتوى الإعلامي الذي يوفره للمتلقي (14). لقد تحولت شركة غوغل إلى أكبر مُجمِّع للأخبار والمعلومات، لذا فهي تحصل على حصة الأسد من الإعلانات التي تضعها في طريق المتلقي الذي يبحث عن المعلومات وتترك نسبة ضئيلة لمنتجي المحتوى الإعلامي (15). بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبحت غوغل حارس البوابة الذي يتحكم في عبور المادة الإعلامية للمتلقي-المستهلك (16).

2.3. مصادر دخل الصحافة الإلكترونية 

تعتمد الصحافة الإلكترونية على مجموعة من مصادر الدخل التي تتراوح في مساهمتها بين تغطية النفقات وتحقيق الأرباح. بعض هذه المصادر لا يزال في طور التشكل؛ لأنها مرتبطة بمستجدات التكنولوجيا الرَّقمية والآفاق الاقتصادية التي تفتحها من خلال تقليص النفقات أو إتاحة تقديم أشكال جديدة من السلع والخدمات.

- إعلانات الإنترنت:

أدى انتشار شبكة الويب في شكلها التجاري مع بداية تسعينات القرن العشرين إلى ظهور الصحافة الإلكترونية؛ الأمر الذي مهَّد الطريق للإعلانات الرَّقْمِيَة التي تنتشر عبر هذه الشبكة وتتسم بسماتها. ولكن ككل المستجدات، كانت البداية متواضعة مقارنة بسوق الإعلانات المطبوعة والمرئية والمسموعة؛ إذ بلغ حجم إعلانات الإنترنت عام 1999 حوالي 4 مليارات دولار وهو مبلغ ضئيل مقارنة بالإعلانات التقليدية (17). ظلت مداخيل الإعلانات الرقمية في نمو مطرد إلى أن ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية سوق الإعلان ليحقق انخفاضًا لأول مرة بنسبة 4.6% عام 2009 مقارنة بعام 2008(18). وبعد أكثر من عقد ونصف من الزمان، شهدت سوق إعلانات الإنترنت نموًّا مطردًا في السنوات الأخيرة حتى أصبحت تُشكِّل حوالي 33% من حصة السوق الإعلاني الإجمالي بمبلغ قدره 60 مليار دولار عام 2015 من مجموع 183 مليار دولار. وقفزت إعلانات الإنترنت في 2015 بنسبة 20% مقارنة بسنة 2014(19). هكذا نجد أن الشكوك حول كون الإنترنت ستظل جزءًا مقدَّرًا ومتناميًا من إجمالي نفقات الإعلانات في المستقبل المنظور، بدأت تزول (20).

لقد هددت إعلانات الإنترنت الصحف الورقية التي كانت تهيمن على سوق الإعلانات المبوبة، من خلال القدرة الفائقة للإنترنت على الوصول إلى المتلقي بكيفية شبه مجانية، خاصة وأن بيئة الإنترنت تسمح بوجود إحصائيات عن جمهور الإعلان بكيفية فورية (21).

وتتجلى أهمية الإعلانات الرَّقمية في كونها تُشكِّل الجزء الأكبر من مداخيل كافة الفاعلين الإعلاميين عبر الإنترنت، خاصة بعد أن ظهرت بعض المبادرات التي تهدف إلى تتبع وسائل الإعلام المختلفة ساعدت على زيادة مداخيل الإعلان، مثل: Google FastFlip(22)، والتي ظهرت عام 2009 معتمدة على طريقة المسح البصري في التعرف على المحتوى(23).

إن سيطرة محرك البحث غوغل على عمليات البحث عن المحتوى عبر الويب، أدت إلى حصوله على نسبة كبيرة من مداخيل الإعلانات التي ترافق المحتوى الإعلامي؛ فقد أبرمت شركة غوغل اتفاقيات مشاركة مداخيل الإعلانات مع كبار الناشرين من خلال تمكين المتلقي من الوصول إلى الأرشيف(24)؛ الأمر الذي يجعل المحتوى الإعلامي متراكمًا مثل كرة الثلج، ومتاحًا وقادرًا على جلب عائد مادي.

لقد سعت الأوساط الإعلامية للتخلص من هيمنة غوغل على مداخيل الإعلانات عبر مشاركته للناشرين مداخيل الإعلان بمجرد توفيره لخدمة البحث، فجاءت مبادرة آلان موتر (Alan Mutter)، رجل الأعمال وأحد التنفيذيين في وادي السليكون، بإنشاء نظام أسماه "ViewPass" ليكون بمثابة بطاقات الدفع الإلكتروني المباشر للناشر كـ"فيزا كارد وماستر كارد" عندما يتعرض المتلقي للرسائل الإعلانية. وعلى الرغم من أن هذا النظام لم يتم تنفيذه إلا أن شركة فيسبوك سارت على دربه؛ حيث قدَّمت للمعلنين معلومات قيمة حول المشتركين في شبكتها (25). 

- بيع المحتوى الرقمي: 

اعتادت الصحافة المطبوعة أن تبيع محتواها للقارئ مباشرة من خلال وضع سعر محدد للحصول على النسخة الورقية. أما الصحافة الإلكترونية، فإنها تواجه صعوبة وتحديات في بيع محتواها الرقمي للقارئ؛ إذ إن هناك تكاليف مباشرة وغير مباشرة، عندما يتعلق الأمر بنظام الدفع، قد تدفع المتلقي-المستهلك للبحث عن بديل في الويب عبر محركات البحث، وغالبًا ما يحصل عليه مجانًا. ولكي تنجح المؤسسات الإعلامية الإلكترونية في بيع محتواها، عليها أن توفِّر محتوى يتسم بالأصالة والتفرد (كالمحتوى الترفيهي أو التحليلي والصور الحصرية وغيرها) (26).

سعت المؤسسات التي تُوفِّر المحتوى الإعلامي الرقمي إلى اتباع نوعين من بيع المحتوى: النوع الأول ويُدعى البيع المصغَّر (Mircropayment) وهو يقوم على الاشتراك الكامل في الخدمة الإعلامية وشراء المادة الإعلامية كل قطعة على حدة، وتختلف الأسعار باختلاف معدل استهلاك المتلقي (كلما زاد الاستهلاك نقصت الأسعار). وأبرز نموذج لتطبيق هذا النوع جاء من صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في 2011، بحيث يُمْنَح المتلقي-المستهلك عددًا محدودًا من المواد الإعلامية مجانًا قبل أن يبدأ في الدفع. والنوع الثاني ويدعى المحاسبة المصغرة (Microaccounting) ويقوم على نماذج نمط تجميع المحتوى، ومن أمثلته كاشنجل (Kachingle) التي تعتبر من أبرز منصات تسويق المحتوى الرقمي منذ أواخر 2009. تقوم كاشنجل بتحصيل 5 دولارات شهريًّا من المستخدم، وبعد ما تقوم بخصم أتعابها تقسم المبلغ المتبقي على المواقع التي استفاد منها المستخدم فعليًّا(27). وهناك تجربة المؤسسة الإعلامية بوليتيكو (Politico) التي أنشأت نظام الاشتراك الإلكتروني الخاص بها عام 2011 تحت اسمPro"؛ حيث يدفع المتلقي-المستهلك مقابل المحتوى المتميز والتغطية المعمقة في مجالات السياسة والطاقة والعناية الصحية ما يعادل 2,495 دولارًا في السنة (28).