»

جدلية السرديات والسرديات المضادة في أزمة الخليج

17 تموز 2018
جدلية السرديات والسرديات المضادة في أزمة الخليج
جدلية السرديات والسرديات المضادة في أزمة الخليج

اصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "جدلية السرديات والسرديات المضادة في أزمة الخليج" إرتأى المركز نشرها للإطلاع والإستفادة كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة في الدراسة وكذلك المصطلحات المستخدمة فيها.

بعد مرور عام كامل، تصبح آفاق تسوية الأزمة الخليجية رهينة بأكثر من جدلية: جدلية المواقف السياسية غير المعلنة، وجدلية السرديات المتباينة التي تتدفق عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، وجدلية التصعيد الأميركي-الإيراني الجديد.

تُعدُّ السرديات المتداولة بين أطراف أية أزمة، سواء كانت مؤقتة أو تحولت إلى نزاع طويل الأمد، المفتاح الرئيسي لتحليل طبيعة القضايا الخلافية بينهم في مرحلة التصعيد والهرولة -في الغالب- إلى تعميق الشرخ ضمن انشطارية مفتعلة بين "نحن" و"هم"، وشيطنة "الآخر". ويسعى كل طرف لتركيب خطاب سياسي وإعلامي ينطوي في الغالب على أحكام قيمة ذاتية أكثر منها موضوعية في محاولة لاحتكار "الشرعية" والوقوف على أرضية "أخلاقية" أفضل. وازدادت وتيرة التصعيد التي شنتها دول الرباعي، وهي: الإمارات والسعودية والبحرين ومصر، ضد قطر بعدما كتب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تغريدته الشهيرة في السادس من يونيو/حزيران2017قائلًا إنه خلال حضوره قمة الرياض في العشرين والحادي والعشرين من مايو/أيار شدَّد على أنه "لا يمكن أن يكون هناك تمويل للأيديولوجية الراديكالية. فأشار القادة إلى قطر!" وشدَّد ترامب وقتها على أن حكومته تعتمد "واقعية ذات مبادئ متجذرة في القيم المشتركة والمصالح المشتركة". بيد أن واقعية المبادئ هذه واجهت أول اختبار لها بفعل الأزمة الخليجية عندما قرر تأييد موقف الرباعي في فرض حصار سياسي واقتصادي على بلد يستورد أغلب حاجياته الغذائية من الخارج بطريق البر أساسًا وتتحكم فيه السعودية. وبدا الفرق الشاسع إلى حد التناقض بين موقفه القائم على التنسيق الأميركي-السعودي باسم سياسة المصالح، وموقف وزير الخارجية الأميركي، عندئذ، ريكس تيلرسون، الذي وإنْ كان يراعي مصلحة بلاده، إلا أنه لم يبتعد عن قواعد سياسة القيم في التعامل مع أزمة سياسية قد تتحول إلى أزمة إنسانية.

وزادت تصريحات ترامب وتيلرسون في واشنطن في تأجج معركة السرديات والسرديات المضادة حول سياسات قطر على المستوى الإقليمي بسبب عدم مجاراتها لدعوة الرباعي لتكريس العداء إزاء إيران، ووضع الحركات السياسية مثل حماس والإخوان ضمن خانة "الإرهاب"، وتضييق الخناق على خطابها الإعلامي من خلال تأثير الجزيرة في الرأي العام العربي قبل وخلال انتفاضات ما سمي "الربيع العربي"، فضلًا عن نمو رأسمالها السياسي وقوتها الناعمة في القيام بوساطات دولية في الإفراج عن عدد من معتقلي غوانتانامو من حركة طالبان، ونزاع السودان، وخلافات فتح وحماس، والمساهمة في بناء السلام في مناطق بآسيا وأوروبا وإفريقيا. ونتج عن هذا الجو المشحون أن "الخطاب الإعلامي الذي لوَّث سماء الخليج منذ 5 يونيو/حزيران"، كما قال أحد كتَّاب التعليقات، "زاد من قسوة وإجحاف الإجراءات السياسية التي أضرت بشعوب المنطقة"(1).

في المقابل، يمكن اعتماد السرديات أيضًا خلال ابتعادها النسبي عن نبرة العدائية المتطرفة عند تقاطعها مع الخطابيْن، السياسي والإعلامي، بمثابة مؤشرات عملية تساعد في تلمس نسبة التحول الإيجابي نحو التقارب السياسي بين الأطراف، وقياس مدى استعدادهم للدخول في مشروع مفاوضات أو البحث عن صيغة مصالحة عندما تستنفد مرحلة التصعيد طاقتها ويمل الأطراف التقوقع في طريق مسدود. ويقول رامي خوري، أستاذ الإعلام في الجامعة الأميركية في بيروت: "في محكمة الرأي العام العالمي، يبدو القطريون أكثر عقلانية وثباتًا وتركيزًا ودقة، بينما يبدو أن مجموعة الدول التي يقودها السعوديون والإماراتيون تعبِّر عن غضب وخوف حقيقيين إلى جانب مطالب غير واقعية وغير معقولة، لكن دون أدلة مقنعة لاتهاماتهم"(2).

 لكن الأشهر الاثني عشر الأولى من اندلاع الأزمة لم تُظهر مرونة التحرك لدى بعض الأطراف نحو التسوية رغم حث البيت الأبيض في أكثر من مناسبة على ضرورة تجاوز الخلافات وطي صفحة الأزمة قبل انعقاد القمة الخليجية-الأميركية التي تم تأجيلها من مايو /أيار 2018 إلى سبتمبر/أيلول 2018. يقول مهران كامرافا،مدير مركز الدراسات الدولية والإقليميةفي جامعة جورج تاون في الدوحة: "نحن بحاجة لتغيير سردية "نحن" مقابل "هم". يمكن للمرء اختيار أصدقائه، لكن لا يمكنه اختيار جيرانه". ويشدد على أنه ينبغي أن يكون هناك مجال للتسوية، وأن هذا المنطق ينطبق أيضًا على أزمة دول مجلس التعاون الخليجي لأنه حتى الآن، تم تجاهل إمكانية وضع سيناريو خارج معادلة اللعبة الصفرية(3).

في الوقت ذاته، ينم تفاعل السرديات بين واشنطن والرياض وأبوظبي والدوحة، منذ فبراير/شباط 2018، عن مفارقة مثيرة، وهي تجميد النزاع عند مستوى إدارة أزمة من قبل الأطراف أنفسهم خاصة أبوظبي مقابل المنحى البراغماتي المتصاعد لدى واشنطن من أجل التسوية في أقرب فرصة سواء في تصريحات الرئيس ترامب، أو وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، أو الحالي، مايك بومبيو، أو نائبه، جون أوسيليفن، الذي أكد لوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، "رغبة الولايات المتحدة في حل النزاع الخليجي وأملها في أن يتعاون جميع الأطراف بشكل بنَّاء في ذلك قبل عقد القمة الأميركية-الخليجية في وقت لاحق من هذا العام (2018)" خلال لقائهما في اجتماع وزراء الدول العشرين في الأرجنتين في الحادي والعشرين من مايو/أيار 2018(4).

وتتكرر السرديات الأميركية بضرورة الحل بناء على رؤية استراتيجية تظل محورية تبناها ترامب من دبلوماسية تيلرسون الذي قال بعد أشهر قليلة من الأزمة: إن "قطر شريك قوي وصديق قديم للولايات المتحدة. من الأهمية بمكان أن تقوم جميع الأطراف بتقليل الخطابة، وممارسة ضبط النفس لتجنب المزيد من التصعيد، والعمل على التوصل إلى حل. إن من شأن مجلس تعاون خليجي موحد أن يعزز فعاليتنا على العديد من الجبهات، لاسيما على مستوى مكافحة الإرهاب، وإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة، ومكافحة انتشار النفوذ الإيراني الخبيث"(5).

وبعد مرور عام كامل، تصبح آفاق التسوية للأزمة الخليجية رهينة بأكثر من جدلية: جدلية المواقف السياسية غير المعلنة، وجدلية السرديات المتباينة التي تتدفق عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، خاصة التغريدات التي تتمسك بالهوة النفسية والسياسية خلف شاشات العالم الافتراضي، وجدلية التصعيد الأميركي-الإيراني الجديد بعد تلويح بومبيو بقائمة الشروط الاثني عشر وإعلان ما يقترب من حرب تجارية على الشركات والحكومات الأوروبية التي تستثمر في السوق الإيرانية.


قيمة التفسير في ثنايا السرديات
يشكل تحليل السرديات أحدث التقنيات التركيبية في مناهج العلوم الاجتماعية، ويقدم منطلقًا منهجيًّا يركز على "فهم المعطيات التي تتأتى من المقابلات والتصريحات، وكيف يفهم المواطنون تغير الأمور من حولهم، ولماذا يتحدثون عن حياتهم كقصة أو سلسلة من القصص. وتشمل حتمًا قضايا الهوية والتفاعل بين الراوي والجمهور"(6). وازداد الاهتمام به خلال العقدين الأخيرين ضمن حركة أوسع تشكَّلت في تطور العلوم الاجتماعية ضمن ما يُعرَف بالمنعطف التفسيري (Interpretive turn). ويشير جورج روزنوالد وريتشارد أوخبرغ في كتابهما "حيوات مسرودة: السياسة الثقافية لفهم الذات" إلى أن تحليل السرديات يعطل التحليل العلمي الاجتماعي التقليدي الذي يحتوي على افتراضات واقعية والتركيز على جمع المعلومات. وبدلًا من ذلك، ينتقل التركيز إلى النظر في بناء السرديات ذاته والدور الذي تقوم في البناء الاجتماعي للهوية(7).

وعلى طول الخط الرفيع بين الفهم الموضوعي والقراءة الذاتية لدواعي الأزمة الخليجية، انشطر الرأي العام العالمي إلى فريقين: فريق اعتقد أن موقف الرباعي هو الإجراء الأقوى في حمل الدوحة على التخلي عن مواقفها واختياراتها الاستراتيجية إزاء إيران وثنيها عن دعم بعض حركات الإسلام السياسي ومنها حماس والإخوان المسلمين. وبعد التلويح بقائمة المطالب الثلاثة عشر ثم تقليصها إلى ستة مطالب في وجه الدوحة، ترسخت القناعة بين مسؤولي الرباعي أن ميزان القوة قد يرجِّح الكفة لصالحهم. وقال وزير الخارجية البحريني، خالد بن أحمد آل خليفة، في أواخر مايو/أيار 2017: إن "الكرة تظل في الملعب القطري"(8). وشدَّد وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، على أن "قطر على الرغم من توقيعها اتفاقيات لوقف دعم الإرهاب، إلا أن ذلك لم يحدث بعد"، وأنها ما زالت في حالة "إنكار وتواصل نشر الكراهية" عبر وسائل الإعلام. وبعد أشهر التصعيد الأولى، حاول الجبير اختزال الرؤية السعودية خلال المحاضرة التي ألقاها في معهد إيغمونت في بروكسل في فبراير/شباط 2018، قائلًا: إن "أزمة قطر صغيرة مقارنة بالقضايا المهمة في المنطقة، وكل ما نريده هو أن تتوقف الدوحة عن استخدام برامجها الإعلامية لنشر الكراهية"(9). 

أما الفريق الآخر فلم يتشبَّع بسردية الحملة التي استهدفت دَمْغَ سمعة قطر بتهمة تأييد الإرهاب، وتساءل حول مدى منطقية فرض الحصار البري والجوي على قطر واعتبره إجراء يتعارض مع القانون الدولي الإنساني. وقد نددت بذلك عدة مظاهرات خرجت إلى الشوارع في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى. وبالنسبة للكثيرين، "بدا النزاع الخليجي بمثابة جانٍ يتهم الضحية، ويلوي الحقيقة لخدمة روايات متنافسة"(10). ووجَّهت وزارة الخارجية الأميركية، بعد مرور أسبوعين من نشوب الخلاف، انتقادات ضمنية إلى دول الرباعي بسبب عدم تقديم ما يبرر قرارها فرض الحصار على قطر. وقالت المتحدثة باسم الوزارة، هيذر نوارت: "نحن نشعر بالارتياح لأن دول الخليج لم تقدِّم إلى القطريين ولا إلى الجمهور تفاصيل ادعاءاتهم ضد قطر...وكلما مر الوقت، يزداد الشك حول الإجراءات التي اتخذتها السعودية والإمارات"(11). بيد أنها أضافت قائلة: "في هذه المرحلة، لدي سؤال واحد بسيط: هل كانت إجراءات الحصار تُعزَى إلى قلقهم بشأن دعم قطر المزعوم للإرهاب، أم أنها كانت بشأن الشكاوى التي طال أمدها بين دول مجلس التعاون الخليجي التي تتقاسم مصالح ومنافسات مشتركة؟"(12).

وخلف التركيبة اللغوية تكمن مؤشرات العملية السياسية التي تكشف عن هياكل القوة التي تسمح بنشر سرديات معينة فيما تتم محاولة إسكات الآخرين، كما تقول الباحثتان سارة  أورثي وآن كرونين(13). ويوضح أنتوني بلينكن، نائب وزير الخارجية في حكومة باراك أوباما، أن دعم ترامب غير المشروط للسعوديين خلال زيارته الرياض "لم يكن ليشجعهم على قطع العلاقات فحسب، بل وأيضًا على فرض حصار اقتصادي على قطر"(14). في الوقت ذاته، تنم محاولة السعودية وحلفائها لثني قطر عن موقفها من إيران وحركات الإسلام السياسي عن مفارقة مثيرة في صيرورة السياسات الخليجية في العقود الأخيرة. وكما يقول ستيف كوك، المحلل في المجلس الأميركي للعلاقات الخارجية: "هذه هي طبيعة الشرق الأوسط؛ إذ من الصواب القول: إن القطريين شركاء صعبو المراس ويتبعون سياسات غير مواتية. غير أن هذا لا يجعلهم مختلفين عن أي من حلفاء واشنطن الآخرين في الشرق الأوسط. فعلى الذين يعيشون في بيوت زجاجية ألا يرموا غيرهم بالحجارة، إلا أن هذا ما يحدث بالضبط في الشرق الأوسط"(15). 

في الوقت ذاته، تفاعلت السرديات المتشابهة أو المتحالفة بشأن عدو مشترك جديد ضمن دائرة مغلقة بعينها، فأصبحت بمثابة غرفة الصدى (Echo chamber) حيث التقطت ذبذبات بعضها بعضًا واستقوت بمواقف متحالفة كتدافع موجات البحر خلال فترات المد قبل أن يحين موعد الجزر. بيد أن تحالف السرديات لدى دول الرباعي ينطوي على ما هو أعمق في ثنايا بنية التفكير المشتركة.

معضلة التفكير الجماعي المتطابق 
ما يحدث عادة عند انجراف الخلافات إلى مستوى التصعيد وتداول السرديات السلبية، كما هي حال الرباعي إزاء قطر، أن تغلب الرؤية السوداوية وصناعة "الآخر" بعد أن كان حتى الأمس القريب جزءًا من الذات الجماعية داخل مجلس التعاون الخليجي. وعندما ينتشر التفكير الجماعي المتطابق (Groupthink) بين بعض العواصم مثل أبوظبي والرياض والمنامة والقاهرة، يصبح من السهل شيطنة "الآخر" والاجتهاد في إيجاد شتى المسوغات والتبريرات من أجل النيل من سمعته والتهديد بنسف قدراته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. وللأسف، يطغى منطق الواقعية السياسية ولغة المصالح مما يفسر تصدع الجسم الخليجي. ويبدو أن معضلة التفكير الجماعي المتطابق هيمنت منذ البداية على القادة الخليجيين والرئيس دونالد ترامب أيضًا خلال قمة الرياض على ثلاثة مستويات رئيسية: شيطنة إيران، والالتفاف حول مشروع مكافحة الإرهاب وإن تباينت تعريفاته، وتضييق الخناق على قطر. 

وحسب أدوات التحليل في علم النفس الاجتماعي، يمكن تعريف هذه المعضلة بأنها ظاهرة نفسية تحدث بين مجموعة من الأفراد الراغبين في الانسجام أو التطابق في الرأي ضمن المجموعة، ويؤدي إلى نتيجة غير منطقية أو اختلال في صنع القرار. وتنطوي الميول نحو التفكير الجماعي المتطابق على بعض المخاطر بإقرار ما يبدو توافقًا بالإجماع. ويقول وليام وايت، واضع هذا المفهوم: "إننا لا نتحدث عن مجرد توافق غريزي، بل عمَّا يشكِّل في نهاية المطاف فشلًا دائمًا للبشرية. ما نتحدث عنه هو توافق منطقي كفلسفة منفتحة وواضحة تؤكد أن قيم المجموعة ليست ملائمة فحسب ولكن صحيحة وجيدة أيضًا"(16).

مرفق PDF لقراءة الدراسة كاملة