»

استراتيجيات قطر في إفشال الحصار الاقتصادي

11 تموز 2018
استراتيجيات قطر في إفشال الحصار الاقتصادي
استراتيجيات قطر في إفشال الحصار الاقتصادي

اصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "استراتيجيات قطر في إفشال الحصار الاقتصادي" إرتأى المركز نشرها للإطلاع والإستفادة كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة في الدراسة وكذلك المصطلحات المستخدمة فيها.

أدى الحصار الاقتصادي على قطر إلى نتائج عكسية حيث زاد اعتمادها على الذات، وتنويع مصادر ووسائط وارداتها، ووسَّع من دائرة شركائها التجاريين والماليين، واستثماراتها الخارجية ماديًّا وجغرافيًّا وجيوسياسيًّا.

في الخامس من يونيو/حزيران 2017 فرضت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين حظرًا على حركة الأفراد ونقل وعبور البضائع بينها وبين قطر، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطيران القطري، كما فرضت مصر مقاطعة اقتصادية على قطر. لا شك أن هذه الإجراءات أخذت بعدًا أكبر من المقاطعة، فالمقاطعة التجارية تكون عندما يوقف بلد ما التبادل التجاري مع بلد آخر. ولكن عند منع حركة عبور الأفراد والبضائع من دول أخرى، وإغلاق المنفذ البري الوحيد الذي يربط شبه جزيرة قطر بالعالم، وتُمنع حركة الأفراد والبضائع من المملكة العربية السعودية وعبرها من دول العالم الأخرى إلى قطر، فهذا نوع من أنواع الحصار. فكون هذه الدول لا تستطيع إغلاق المياه أو الأجواء الدولية، هذا لا يعني أنها لا تحاصر قطر من كل الجهات الممكنة وبكل ما أوتيت من قوة. بل إن هذه الإجراءات في أوجه منها تعدَّت الحصار إلى حرب اقتصادية تستهدف زعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتهجير رؤوس الأموال، وما لذلك من تبعات سلبية قد تمس حياة الناس وتمثِّل كارثة على مدخراتهم وممتلكاتهم.

لقد أُرِيد بهذا الحصار الضغط على قطر للرضوخ والتسليم لطلبات غير منطقية، تمس بالسيادة والكرامة. ولم يكن متوقعًا أن تقبل بها الحكومة القطرية ولا أن يتقبلها الشعب القطري. فهدف الحصار بدا واضحًا وهو الضغط على قطر للتخلي عن السيادة، والاستقلال في قرارها السياسي، والخضوع للهيمنة السعودية والإماراتية، وزعزعة استقرار النظام في قطر وإضعافه تمهيدًا لسقوطه أو إسقاطه. ويمكن القول إن الحصار فشل في تحقيق أهدافه، بل وأدى إلى نتائج عكسية لثلاثة عوامل هي: أ) محدودية انكشاف الاقتصاد القطري على دول الحصار، ب) خصائص الاقتصاد القطري وقوته الذاتية، ج) السياسات المضادة التي اتبعتها قطر لمواجهة الحصار. وهذا ما نحاول تحليله في هذه الورقة.

1- الضعف البنيوي لاقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي 

إن محدودية انكشاف الاقتصاد القطري على دول الحصار تعود لأسباب تتعلق بضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول المجلس بشكل عام. فدول الحصار ليست مصنِّعة، واقتصاداتها ليست متنوعة، ولا منتجة زراعيًّا. فهي لا تصدر لقطر الآلات ولا المعدات ولا السيارات ولا الأجهزة الطبية ولا الإلكترونية، ولا سلع أساسية كالقمح والذرة والشعير، ولا لحوم حية ولا ميتة (1). ومع ذلك راهنت تلك الدول على أن تصبح أسواق قطر خاوية مع فرض الحصار، وتضطر إما للرضوخ لشروطها أو تضطر للاستيراد من أسواق خارجية بديلة وبتكاليف قد تكون مرتفعة تستنزف خزينتها، وهو ما سيدفعها، في تقديرهم، للرضوخ عاجلًا أم آجلًا لشروط تلك الدول. كما أن دول الحصار ليس لديها الحق ولا القدرة على إغلاق المياه الدولية وفرض حصار خانق على قطر من كل الجهات الجوية والبرية والبحرية، وبالتالي التحكم في الاستيراد، كما تصنع إسرائيل والنظام المصري مع قطاع غزة لأكثر من عقد من الزمن.

فبعد أكثر من نصف قرن من تصدير النفط، فشلت دول المجلس في تنويع اقتصاداتها. فهي تستخرج موردًا واحدًا (النفط) وتصدره للعالم الخارجي وتستورد في المقابل معظم ما تحتاجه من سلع استهلاكية ورأس مالية وعمالة من الخارج. ولذلك لا يوجد لديها الكثير مما يمكن أن تتبادله فيما بينها. وظلت التجارة البينية في دول مجلس التعاون تراوح مكانها عند 10% لعقود طويلة. لذلك لا يوجد هنا مجال كبير للضغط على قطر من خلال الحصار التجاري. وبالتالي سيبقى أثر الحصار محدودًا على الطرفين بسبب محدودية التبادل التجاري والتعامل المالي، لأن هذه الاقتصادات تفتقد إلى دورة إنتاج داخلية حقيقية. فهي اقتصادات ريعية تستمد دخلها من مصدر خارجي، وطالما أن تصدير النفط وأسعاره لم تتأثر بهذه الأزمة، فإن أثرها على أداء الاقتصادات يبقى محدودًا، مع تحييد العوامل الأخرى. 

2- قوة الاقتصاد القطري وخصائصه

إن قوة الاقتصاد القطري وخصائصه، وبعض الميزات النسبية التي يتمتع بها، تمكنه من الصمود في وجه الحصار وتحييد أثره على المدى المتوسط إلى الطويل، مع تحييد العوامل الأخرى. فقطر لديها موانئ ومطارات مفتوحة على المياه والأجواء الدولية، وهذا يمكنها من تجاوز الحصار، وتعويض النقص في الاستيراد من وعبر دول الحصار من مصادر بديلة بمرونة. وبفضل السياسات الاقتصادية السليمة التي اتبعتها في فترات الرواج، استطاعت قطر استغلال الموارد الطبيعية الضخمة لتوليد دخل مستقر للبلاد إلى حد مقبول، وتطوير بنية تحتية حديثة، ومراكمة واستثمار عوائد تلك الموارد لتشكل واقيًا يُستخدم لمواجهة الركود والأزمات، ولتنويع مصادر الدخل وحفظ مدخرات الأجيال. 

لقد أصبحت قطر، في فترة وجيزة نسبيًّا، المنتج والمصدر الأول للغاز الطبيعي المسال في العالم، من ثالث أكبر احتياطي للغاز عالميًّا. وأصبح للاقتصاد القطري دخل مستقر إلى حد مقبول من إنتاج الغاز عبر الفترات والأزمات المالية والاقتصادية السابقة وكذلك خلال هذه الأزمة. وأصبح الاقتصاد القطري أسرع الاقتصادات نموًا في المنطقة وربما حول العالم (بمعدل 12% نمو حقيقي سنوي خلال عشر سنوات حتى عام 2015). وأصبحت قطر صاحبة أعلى دخل للفرد في العالم، وتمتلك احتياطات سيادية كبيرة، ولديها الملاءة المالية الكافية لدعم الاستقرار والاستدامة في القطاع المالي وقطاع الاستيراد في التجارة الخارجية لفترات طويلة. كما أن بنية اقتصادها الإنتاجية تمكِّنها من الاستمرار في ذلك والتكيف مع الأوضاع التي يفرزها الحصار لفترات طويلة (مع تحييد العوامل الأخرى). ولديها بنية تحتية حديثة (مطار وموانئ ذات طاقة استيعابية عالية وشبكة مواصلات واتصالات حديثة، ومدن إمداد لوجستية واقتصادية) تمكِّنها من الالتفاف على الحصار والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية. لقد حققت قطر في السنوات الماضية مستويات مقبولة من التنويع (الرأسي) في مجال الصناعات المصاحبة للقطاع الهيدروكربوني، وقطاعها المالي قوي تدعمه أسس الاقتصاد القطري المتينة، والنمو الاقتصادي القوي الذي تحقق خلال الفترات السابقة. وهو محصن بفضل السياسات الائتمانية والاحترازية المعاكسة للدورة المالية التي تبناها المصرف المركزي مع بداية الدورة النفطية خلال عامي 2003–2004. شكَّلت تلك التحصينات درعًا واقيًا ضد الصدمات وحدَّت من الانكشاف والتوسع المفرط في الاقتراض محليًّا وخارجيًّا مع التوسع الاقتصادي وارتفاع الفوائض. وحدَّت من تراكم الاختلالات والهشاشة المالية فيه (2). كما أن العملة القطرية قوية؛ إذ تدعمها أسس الاقتصاد القطري المتينة، والاحتياطيات النقدية والسيادية الضخمة، ولا يوجد مجال للمضاربة عليها خارجيًّا لمحدودية عرضها، ومحدودية تداول السندات السيادية. 

فيما يلي، سنتناول القنوات التي يؤثر من خلالها الحصار على الاقتصاد القطري، وهي القطاع الحقيقي، والقطاع المالي، وعامل الثقة، مع شرح مصادر القوة والانكشاف في كل منها والسياسات المضادة للحصار التي اتبعتها قطر في الأجل القصير. 

القطاع الحقيقي

مصادر القوة: الموارد الطبيعية الضخمة والسياسات الاقتصادية السليمة

‌أ. سياسات الإنتاج الهيكلية: بفضلها أصبحت قطر المنتج والمصدر الأول من ثالث أكبر احتياطي للغاز في العالم.

‌ب. سياسات تطوير بنى تحتية حديثة: شبكة اتصالات ومواصلات حديثة ومطار وميناء ذات طاقات استيعابية عالية، ومدن لوجستية واقتصادية وصناعية وغيرها تمكن من تخطي دول الحصار، وتوفير مخزون استراتيجي لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي بالمواد الأولية والأساسية.

‌ج. سياسات التنويع الرأسي: تنمية قطاع صناعات مصاحبة كالبتروكيماويات والأسمدة بالإضافة إلى صناعة الحديد والصلب وغيرها لتنويع مصادر الدخل.

‌د. السياسات الاستثمارية: مراكمة واستثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتوزيعها جغرافيًّا وجيوسياسيًّا وماديًّا عبر الأصول، لتستخدم لدعم الاقتصاد في أوقات الركود والأزمات، ولتنويع مصادر الدخل ولحفظ حقوق الأجيال من خلال صندوق قطر السيادي الذي كانت احتياطاته تبلغ 340 مليار دولار قبل الأزمة، بنسبة 225% من الناتج المحلي لعام 2016، منها ما يقارب 180 مليار دولار في حالة شبه سائلة وكانت تشير التوقعات إلى أن احتياطاته تكفي لـ25 عامًا مقبلة عند مستويات الأسعار والإنفاق المنظورة. 

مصادر الانكشاف

التجارة الخارجية: الانكشاف محدود بسبب قلة تنوع اقتصادات دول المجلس ومحدودية الاستيراد منها. فتبلغ نسبة الاستيراد من إجمالي واردات قطر من الإمارات حوالي 9% (معظمها تجارة إعادة تصدير من خلال ميناء دبي وتبلع 4% من أكبر اقتصاد في المنظومة وهو الاقتصاد السعودي (3). إلا أنها متركزة في بعض السلع الأساسية للمستهلك كمنتجات الألبان وبعض منتجات الخضراوات والدواجن ومواد البناء. وهذه سلع معظمها غير معقدة الإنتاج ويمكن تحقيق قدر جيد من إنتاجها محليًّا، كما يمكن استيرادها بيسر من مصادر أخرى وتعويض النقص منها بالأسواق بمرونة عالية، وهذا ما جرى بالفعل. ولكن كان الاعتقاد السائد سابقًا أن دول المجلس هي منظومة واحدة ودولها مكملة لبعضها البعض، لذلك فلا ضير من الاعتماد على بعضها البعض في تلبية احتياجاتها السوقية. بل إن تكامل الأسواق وحرية حركة البضائع وعوامل الإنتاج والأفراد هدف أساسي من أهداف مجلس التعاون، وقد نصت عليها الاتفاقية الاقتصادية الموحدة لدوله، ولم يخطر ببال أحد أن يأتي يوم يحظر فيه دخول منتجات أساسية إلى أحد أعضائه، كمنتجات الألبان والحليب والأدوية وغيرها من سلع أساسية، من دولة جارة شقيقة. بإيجاز تتمثل مصادر الانكشاف وتبعاته في التالي:

‌أ. انكماش محدود في حجم التجارة الخارجية: تراجع مؤقت للاستيراد في أول شهر من الحصار (40% على أساس سنوي ومعاودة الارتفاع في شهر أغسطس/آب بعد تحويل مصادر الاستيراد ووسائطه (4).

‌ب. ارتفاع محدود في الأسعار: ارتفاع تضخم المواد الغذائية في أول شهرين من الحصار (إلى 4.5% على أساس سنوي) وتراجعه في أغسطس/آب (إلى 2.8%) مع بقاء التضخم العام في منطقة السالب (5).

‌ج. منفذ ومعبر بري واحد (سلوى)، وتركز كبير للاستيراد في إعادة التصدير من ميناء إقليمي واحد (دبي).

قطاع السياحة: خدمات النقل والسياحة ستكون الأكثر تأثرًا بالحصار السياحي–الاجتماعي وحظر النقل والطيران، وهي صناعة يقدر حجمها بـ15 مليار دولار في العام 2016 (6). 

السياسات المضادة للحصار التجاري والسياحي:

‌أ. تدخلت الحكومة بسرعة عندما تعطلت آليات استيراد الأسواق في بعض السلع بفعل الحصار، ولعبت دورها كمستورد وموزع وكمحافظ على الأسعار. ونوعت مصادر ووسائط الاستيراد، وفتحت مصادر وخطوط إمداد جوية وملاحية جديدة واستخدمت البنى التحتية ذات الطاقات الاستيعابية العالية (مطار حمد وميناء حمد) لتخطي دول الحصار، والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية مباشرة، لضمان تدفق السلع والحفاظ على الأسعار لتبقى في حدودها التنافسية، فكان هناك تنوع أكبر مع جودة في السلع وبأسعار مناسبة.

‌ب. توسعت الطاقات التخزينية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي بالمواد الأولية وتطوير مدن لوجستية وصناعية واقتصادية لذلك الغرض.

‌ج. زيادة إنتاج الغاز بنسبة 30% إلى 100 مليون طن سنويًّا، وقد شكَّل ذلك مصدرًا لتعزيز استقرار واستمرارية القطاعين الحقيقي والمالي وعزَّز من عامل الثقة في الاقتصاد، وعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية والتعويض عن الانخفاضات المحتملة في الاحتياطات الأجنبية بفعل الحصار وتبعاته.

‌د. تبنت الدولة سياسات محفزة للمنتج المحلي وداعمة للقطاع الخاص في مجال الإنتاج الحيواني والزراعي.

‌ه. تبني حزمة من السياسات لجذب السياحة العالمية.

‌و.اللجوء للقانون الدولي لفتح مسارات للطيران القطري. 

بناء على هذه السياسات، يمكن توفير المزيد من عوامل القوة في الاقتصاد القطري في صورة اتخاذ مجموعة من الإجراءات مثل:

الاستمرار في تنويع مصادر ووسائط الاستيراد والشركاء التجاريين والاستثمارات الخارجية.
زيادة توسيع الطاقات التخزينية لتصل إلى سنتين على أقل تقدير (لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي بالمواد الأولية وغيرها).
مكافحة الممارسات الاحتكارية.

القطاع المالي

مصادر القوة

‌أ. أسس الاقتصاد القوية والنمو الاقتصادي القوي خلال الفترات الماضية.

‌ب. الاحتياطات الأجنبية الضخمة لدى المصرف المركزي والحكومة وصندوقها السيادي.

‌ج. الجهاز المصرفي: محصن وقوي بفضل السياسات الائتمانية والاحترازية المعاكسة للدورة المالية التي اتبعها المصرف المركزي مع بداية الدورة النفطية في العام 2003 للحد من التوسع المفرط في الاقتراض داخليًّا وخارجيًّا، مع التوسع الاقتصادي وارتفاع الفوائض، والتي حدت من انكشافه وتراكم الاختلالات والهشاشة المالية في القطاع المالي (7)، حيث كان الجهاز المصرفي القطري الأقل انكشافًا وتأثرًا بالأزمات التي ضربت المنطقة خلال العقد والنصف الماضيين (فقاعة أسواق الأسهم في عام 2006، والأزمة المالية العالمية في عام 2008).

‌د. فقد أظهرت مؤشرات القطاع المصرفي لعام 2016 أن نسب الربحية جيدة (صافي الربح لمتوسط حقوق المساهمين 14.5%) وأن السيولة مريحة (الموجودات السائلة إلى إجمالي الموجودات 30%)، وأن كفاية رأس المال مرتفعة (16%)، وأن الديون المتعثرة منخفضة (1.33%) (8).

‌ه. العملة: تدعمها أسس الاقتصاد القطري القوية والاحتياطات الكبيرة النقدية والسيادية لدى المصرف المركزي والحكومة وصندوقها السيادي، ولا يوجد مجال للمضاربة عليها خارجيًّا لمحدودية العرض. وتاريخيًّا أثبت نظام سعر صرف الريال القطري أنه الأكثر استقرارًا ومصداقية خلال العقود الماضية وعبر الأزمات الاقتصادية والحروب التي شهدتها المنطقة حتى الأزمة الخليجية الأخيرة. 

مرفق PDF لقراءة الدراسة كاملة