»

صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي للرأي العام

29 أيار 2018
صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي للرأي العام
صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي للرأي العام

اصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "صناعة الأخبار الكاذبة ولولب الحصار المعلوماتي للرأي العام" إرتأى المركز نشرها للإطلاع والإستفادة كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة في الدراسة وكذلك المصطلحات المستخدمة فيها.

مقدمة 

أسهمت البيئة الرقمية الجديدة بمنصاتها ووسائطها المختلفة في تغير نمط إنتاج وتوزيع المحتوى الذي بات يُنْقَل "من الجميع إلى الجميع"، وهو ما حوَّل الانتباه باتجاه الحوامل الجديدة والمحتوى نفسه الذي تزداد أهميته بين الفاعلين، أفرادًا ومؤسسات ودولًا، ليس فقط في إبراز التَّمثُّلات والرؤى حول القضايا والأحداث الجارية، وإنما في الصراع الرمزي والقيمي بين مختلف القوى عبر حروب إعلامية تُسْتَخْدَم فيها جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وتُسْتَثْمَر فيها أيضًا خصوصية البيئة الرقمية التي تُؤَمِّن مجالًا واسعًا لانتشار السرديات البديلة في زمن اتصالي أفقي.  

وفي سياق هذا الصراع الرمزي، أصبح المجال الرقمي-الشبكي بنموذجه الاتصالي الأفقي، وحالته الإعلامية السائلة وتمدُّد شبكاته ومنصاته، ملاذًا ومَحْضنًا لاصطناع الأخبار والوقائع وفَبْرَكَةِ البيانات، فضلًا عن تزييف الأحداث وتركيب سياقاتها. وتفاقم ذلك مع اندثار سلطة حارس البوابة، لاسيما في شكلها الرقابي، بعدما كان الإعلام التقليدي بنموذجه الإخباري العمودي يُمَكِّن شبكة الحراس من التَّحكُّم في الحلقات الاستراتيجية لعملية الاتصال والسيطرة على سلاسل إنتاج المحتوى. فلم تعد هناك أية سلطة تُحدِّد مدخلات ومخرجات المحتوى –وتبتُّ فيما يُنْشَر وما لا يُنْشَر عبر منصات إعلام الفرد والنَّحْنُ، خاصة الإعلام الاجتماعي، ووصوله إلى المتلقي- سوى المستخدم نفسه الذي أصبح مُنْتِجًا ومُرْسِلًا ومُسْتَقْبِلًا في الآن ذاته، ومالكًا لسلطة القرار في جميع الحلقات التي يحددها هو لإنتاج هذا المحتوى. 

وقد ساعدت الحالة السائلة للإعلام الرقمي، التي ترافقت مع الجيل الثاني للويب (2.0) واختلَّت فيها أيضًا سلطة الضوابط المهنية، على التوسع في إنتاج الأخبار الكاذبة وانتشارها، خلافًا لمرحلة الجيل الأول للويب (1.0) التي أسهمت بشكل غير مباشر في مشاركة الأخبار وانتشار المعلومة والمعرفة، وتدوين الآراء والتجارب الشخصية، وأيضًا التعاون في إنتاج المحتوى والكتابة المشتركة للوثائق. كما عززت ظاهرةُ المصادرِ المُجَهَّلَة والأسماءِ المستعارة التَّحَلُّلَ من القواعد الأخلاقية والضوابط الاجتماعية للحوار، وولَّدت الشعورَ بالإفلات من المحاسبة، الذي يشجع على ترويج الإشاعة والدعاية بكل أصنافها. وظهر العديد من المنصات التي تُمَثِّل هذا الاتجاه، مثل الموقع الفرنسي "لوغورافي" (Le Gorafi) الذي انطلق خلال انتخابات الرئاسة الفرنسية، عام 2012، عبر صفحات تويتر، ويتأسس خطابه على السخرية المُنْتِجَة للتضليل الإعلامي كما اشتُهر بالترويج للأخبار الكاذبة، وتسمى هذه المنصات بمواقع التسلية(1). وقد فجَّر تطور الويب الحواجز التقليدية للمجال العام؛ حيث يتعذر التمييز بين المعلومة والأخبار الكاذبة والإشاعة، لذلك توصف المواقع التي تعمل بمقتضى هذه الحالة بـ"الضبابية"، مثل شبكات التواصل الاجتماعي التي تُعَدُّ جزءًا من هذه المنصات، بل أصبح الاحتيال المعلوماتي والأخبار الزائفة والإشاعة مظهرًا للثقافة السائدة اليوم؛ حيث يَسْهُل إنتاج هذا المحتوى وتوزيعه مما يرسخ الشك في المجتمع(2)، بل وتساءل البعض إن كانت الحقيقة لا تزال موجودة أم أن البشرية تعيش في عصر التزييف والتضليل(3)! بينما ينظر آخرون للأخبار المزيفة باعتبارها حقائق بديلة لمواجهة الرواية السائدة، وكان هذا المصطلح مثار الجدل الذي أثارته كيليان كونواي، مستشارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عندما اعتبرت تصريحات الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض حول الجمهور الغفير الذي حضر حفل تنصيب الرئيس حقائق بديلة غير كاذبة، بيد أن مقارنة صور هذا المشهد بحفل تنصيب باراك أوباما تُبيِّن أن تلك المعلومات لم تكن حقيقية(4). 

وتُظهر الملاحظة الاستكشافية لواقع الأزمات السياسية الراهنة، التي كان الإعلام إما متغيرًا أساسيًّا في تفجيرها أو مُظهرًا كاشفًا لدينامياتها، بُروزَ ظاهرة الأخبار الكاذبة، وتعاظمَ صناعتِها وانتشارِها الواسع في سياق الصراع الرمزي والأيديولوجي لإنشاء معان وإنتاج سرديات بديلة، أو ما سُمِّي بـ"الحقائق البديلة"، لمواجهة الخطاب المُنَافِس والخصوم السياسيين، أفرادًا ومؤسسات وكيانات سياسية، عبر شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد عمومًا. فتنشط الجيوش والذباب الإلكتروني في الترويج لخطاب القائم بالفبركة، وإغراق المجال العام الرقمي والتقليدي أيضًا بالأخبار الكاذبة عن الخصم السياسي، والتشويش على الخطاب المُنَافِس من خلال مئات الحسابات الوهمية. وتُمَثِّل هذا الواقع قصة شركة "كامبريدج أناليتكا" البريطانية لتحليل البيانات والاستشارات السياسية(5)، ووكالة الأخبار الاتحادية الروسية(6) وقبل ذلك قصة اختراق "وكالة الأنباء القطرية"(7) التي تُبَيِّن دور صناعة الأخبار الكاذبة/المُفَبْرَكَة في تفجير الأزمات السياسية وتداعياتها الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، وتأثيرها أيضًا في العلاقات الدولية والسلم والأمن العالميين. 

إذن، تبدو صناعة الأخبار الكاذبة اليوم -رغم قِدَم هذا النمط الاتصالي- ظاهرةً أكثر تعقيدًا في سياقها الرقمي؛ حيث تتشابك أبعاد تكنولوجية واتصالية ومعلوماتية وعلمية وأمنية واستخبارية في صناعتها. كما تتدخل شبكة واسعة من الفاعلين و/أو القائمين بالفبركة في سلاسل إنتاجها والترويج لها (شركات العلاقات العامة، شركات تحليل البيانات والاستشارات السياسية، المؤسسات الفكرية والبحثية، مراكز استطلاع الرأي، منصات التواصل الاجتماعي...وغيرها)، خلافًا لنموذج الدعاية الذي اقترن بوسائل الإعلام التقليدية ونمطها الاتصالي العمودي الذي يجعل القائم بالدعاية ومصدرها معلومًا، والخطاب الدعائي نفسه مرصودًا. ولا تُساعد معظم المقاربات والنماذج المعرفية، والأنماط الاتصالية التقليدية، مثل نموذج الدعاية والتضليل الإعلامي، ولا حتى بعض الأفكار والمفاهيم الحديثة، مثل الحقائق البديلة أو ما بعد الحقيقة، في تأطير ظاهرة الأخبار الكاذبة وتقديم تفسير لمحدداتها واستراتيجيات صناعتها وآليات اشتغالها وأهدافها، وعلاقتها بتشكيل الرأي العام ومراحل التأثير في اتجاهاته المعرفية والنفسية والسلوكية، لاسيما في ظل التعقيد الذي يميز هذه الظاهرة كما يبدو في الحالات الثلاث السابقة. 

لذلك، تحاول هذه الدراسة عبر تحليل آليات صناعة الأخبار الكاذبة وسيرورتها، واستراتيجية محاصرة الرأي العام بالسرديات البديلة للقائم بالفبركة، وضعَ نموذجٍ أسماه الباحث لولب الحصار المعلوماتي؛ يهتم بكيفية اشتغال الأخبار المزيفة لتسييج الرأي العام عبر التشويش والاحتيال على منصات الإعلام الرقمي ووسائل الإعلام بشكل عام لاستغلال بياناتها واختراق المنصات المُنَافِسَة في مرحلة أولى، ثم الانغمار في ضخ المعلومات والبيانات المفبركة والتحليلات المزيفة عبر موجات و/أو هجمات لَوْلَبِيَّة عاصفة من قِبَل شبكة المفبركين في مرحلة ثانية، ثم التسويق السياسي لخطاب شبكة المفبركين وسردياته البديلة عبر جميع وسائل الإعلام التقليدية والجديدة للتأثير في الرأي العام معرفيًّا ونفسيًّا وسلوكيًّا في مرحلة ثالثة. 

ويستفيد هذا النموذج(8) المعرفي، لولب الحصار المعلوماتي، من نظرية دوامة الصمت لإليزابيث نويل نيومان (Elisabeth Noelle-Neumann)(9)، وأيضًا الدراسة الإمبريقية لجون ميرشايمر (John Mearsheimer) حول الكذب في العلاقات الدولية "لماذا يكذب القادة؟: حقيقة الكذب في السياسة الدولية"(10)، فضلًا عن نظرية الأطر الإعلامية. وهو ما يؤكد أن الظاهرة الإعلامية منذ ظهورها، والاتصال عمومًا، يمثلان مجالًا مشتركًا لعدد من التخصصات العلمية والحقول المعرفية، وقد ظلا أيضًا محورًا لوضع النماذج والنظريات الاتصالية المُفَسِّرة لهما في سياق مجالات معرفية مختلفة (نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية..)، أسهمت في تأكيد تطور عملية الاتصال وقدَّمت في مجموعها إطارًا لاتجاهات البحث في مجالات الإعلام والاتصال وعلاقتها بالعلوم الأخرى. وهنا لا يمكن الحديث عن نظرية إعلامية واحدة متَّفَق على كيفية عملها، أو تأثيرها في الجمهور بين الباحثين، وإنما هناك عدد من النظريات التي تقدم تصورات عن كيفية عمل الإعلام وتأثيره، وفي الوقت ذاته تساعد هذه النظريات على توجيه البحث العلمي في مجال الإعلام إلى مسارات مناسبة؛ ذلك أن النظرية تجسد بشكل فاعل تطبيقات وسائل الإعلام في المجتمع(11). 

وسنركز في هذا السياق على الصورة الكلية لنموذج لولب الحصار المعلوماتي عبر وصف ظاهرة صناعة الأخبار الكاذبة وآليات إنتاجها وعلاقتها بتشكيل الرأي العام، لذلك فإن هذا النموذج المعرفي ليس معنيًّا بالبحث في الكيفية التي يحدث بها الاتصال في سياق إنتاج الأخبار الكاذبة، باعتبارها عملية اتصالية تتشكَّل عبر مساقات ومراحل متعددة لا محدودة، ولا معنيًّا أيضًا بدراسة النظام الاتصالي لهذه العملية وتحديد عناصره وخصوصيته، وإنما يُحدِّد هذا النموذجُ سيرورةَ صناعة الأخبار الكاذبة ومراحلَ حصار الوسيلة/الرسالة، ويُبرِز الكيفيةَ التي تؤثر بها عملية صناعة الأخبار المفبركة في الرأي العام وتطبيقاتها في علاقات الأفراد والمؤسسات والدول، والأطر المحددة لأهدافها، وهي المحاور الثلاثة التي تُمَثِّل متطلبات الدراسة ومنطلقاتها. 

مرفق pdf لقراءة الدراسة كاملةً