»

الأمن العسكري في الدول الصغيرة: قطر نموذجًا

21 أيار 2018
الأمن العسكري في الدول الصغيرة: قطر نموذجًا
الأمن العسكري في الدول الصغيرة: قطر نموذجًا

اصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "الأمن العسكري في الدول الصغيرة: قطر نموذجًا" إرتأى المركز نشرها للإطلاع والإستفادة كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة في الدراسة وكذلك المصطلحات المستخدمة فيها.

مقدمة 

قد تكون الدولة الصغيرة جميلة، لكنها بالتأكيد غير آمنة؛ إذ لا شك أن الدول الصغيرة تواجه عددًا مختلفًا من المصاعب الأمنية إذا كانت مجاورة لدول كبرى، وغالبًا ما تتهددها مخاطر الإخضاع أو الاحتلال. أما إذا ما كانت تقع بين دولتين جارتين كبريين، فقد تصبح إما مسارح لصراعات الكبار أو بيادق لا تملك مصيرها. فالدول الكبرى، المجاورة لمثيلاتها الصغيرة، غالبًا ما تنتظر من الجارة الأصغر أن تكون سياستها تابعة ومتسقة مع سياسات الدولة الأكبر وفقًا لمقتضيات المصالح المشتركة أو الأمن المشترك حتى وإن احتجت الدولة الأصغر على ذلك الوضع (1). وبالطبع، فإن الدول الأكبر عادة ما تنزع إلى ارتداء لَبوس الزعامة (عبر قرار أحادي) وتنصِّب نفسها زعيمة وحامية للأمن الإقليمي، ومن ثم تفرض واجب الطاعة والإخلاص على أتباعها من الدول الجارة الأصغر. 

مثل هذه المشاكل ليست وليدة اليوم، ولا هي فريدة من نوعها. ومع ذلك، فإن العديد من تلك المشاكل ينطبق على دولة قطر، خاصة في أعقاب إعلان كل من المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين قطع علاقاتها مع قطر. 

سنحاول في هذه الورقة(*)، بشكل سريع، تحليل التحديات العسكرية التي تواجهها الدول الصغيرة، ومن ثم نلقي نظرة على الطريق الذي سلكته قطر في سبيل تعزيز قوتها العسكرية.  

تحدي الجغرافيا: مجاورة دولة كبيرة 

يتمثَّل أول التحديات التي تواجهها دولة صغيرة في رغبة دولة كبيرة في الحصول من جارتها الأصغر على الاعتراف بزعامتها واتباع أجندتها في القضايا المتعلقة بالأمن. فالدول الكبرى، وبالأخص تلك التي استثمرت بسخاء في مجال الأمن، غالبًا ما تسعى إلى بناء تحالفات مع جيرانها منصِّبة نفسها حاملة للواء الزعامة. كانت الولايات المتحدة الأميركية، بعد إعلانها مبدأ مونرو عام 1823 (2)، أول دولة معاصرة تُقْدِم على إعلان نفسها زعيمة الأمن الإقليمي (معتبرة القوى الأوروبية قوًى غير مرغوب فيها داخل الفضاء الجغرافي الغربي). ومن ثم، وعلى مدى الجزء الأكبر من القرنين الماضيين، قامت بسلسلة من التدخلات في شؤون دول أخرى أضعف منها، وهي في الأغلب دول فاشلة، داخل الفضاء الجغرافي لنصف الكرة الغربي. أبرز تلك التدخلات كان احتلال هاييتي لعقود طويلة (3)، وإجبار بنما على الانفصال عن كولومبيا (4) وما تبعه من إطالة أمد احتلال الجزء الواقع في بنما من القناة (5)، بالإضافة إلى اختراقات متكررة وخاطفة داخل نيكاراغوا ودولة الدومينيكان (6) 

استطاعت الولايات المتحدة الأميركية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تطوير منظمة إقليمية كبرى (منظمة الدول الأميركية) تجمع عددًا من بلدان الأميركتين بهدف تأكيد زعامتها الإقليمية، طالبة من الدول الجارة الصغيرة المشاركة في عمليات أمنية. وقد وفرت "منظمة الدول الأميركية"، التي يقع مقرها في واشنطن، الغطاء القانوني وجهزت القوات العسكرية، في ستينات القرن الماضي، لاحتلال هاييتي وجمهورية الدومينيكان (7) 

دون شك، ثمة دول صغيرة ترى أن أفضل ما يمكن أن تتخذه من سياسات هو اعتمادها على قوة أجنبية تقدم لها الدعم والتمكين لتتقمص دور تلك الدولة الكبرى. في الجزء الغربي من العالم، لعبت دولة كوبا هذا الدور، وقد كانت لعقود طويلة دولة افتراضية تابعة للاتحاد السوفيتي، واتخذت من معاداة أميركا عنصرًا محددًا لهويتها القومية وسياستها الخارجية، على حد سواء (8). 

إذا ما طبقنا هذا المثال على قطر، فسيكون بإمكاننا رؤية المملكة العربية السعودية (ولاحقًا دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي دولة أصغر لكنها تلعب دورًا خارجيًّا يفوق حجمها في القضايا الأمنية) تطرح نفسها قائدة لدول الخليج العربي، وتسعى لفرض توحيد السياسات والرؤى مع قطر وغيرها من الدول الخليجية الصغيرة. ويمثل مجلس التعاون الخليجي الإطار والأداة المنطقية لتنسيق السياسة والأمن بين تلك البلدان. وعلى نحو مماثل، وكما يقع مقر منظمة البلدان الأميركية الرئيسي في واشنطن، فإن مجلس التعاون الخليجي الرئيسي يتخذ من الرياض مقرًّا لقيادته المركزية. 

أبدت قطر علنًا، ومنذ وقت ليس بالقصير، تفلتها ومخالفتها الاقتداء بخط السلوك المطلوب منها من قبل السعودية والإمارات والبحرين من خلال اتباع سياسة مختلفة تجاه الإخوان المسلمين، وإبرام شراكة مع إيران (والتي هي في الحد الأدنى كانت مفروضة عليها بحكم المعطيات الجغرافية وتقاسمها مع إيران عددًا من حقول النفط)، وقبول قطر استقبال معارضي أنظمة دول مجلس التعاون الأخرى على أراضيها، وتمويل منصات إعلامية منتقدة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي، وهي خطوات اعتبرتها دول جوار قطر الكبرى استفزازات لا تُغتفر. من جانبها، عملت قطر على ضمان استمرار وجودها باتباع توجهين رئيسيين: تمثَّل الأول في تحالفها مع الولايات المتحدة، والثاني في شراء كميات ضخمة من العتاد العسكري. سنناقش نتائج هاتين المقاربتين في الفقرات القادمة من هذه الورقة. 

استراتيجيات الدولة الصغيرة من أجل البقاء: التحالف مع قوة عظمى 

إن تبعية كل دول مجلس التعاون الخليجي -بنسب متفاوتة- للولايات المتحدة الأميركية باعتبارها الضامن الأخير لبقائها واستمرار وجودها، تشكِّل واحدة من الحقائق المُعقدة للأزمة القطرية الراهنة. في هذا السياق، يمكننا اعتبار نظرية كارتر -وهي إعلان من جانب واحد تتعهد فيه أميركا بدعم دول مجلس التعاون الخليجي من دون أي شروط مسبقة (9)- التزامًا أكثر صلابة من التزام أميركا تجاه حلف شمال الأطلسي. وعلى عكس الالتزام الأميركي بالتدخل في النزاعات الأوروبية، وفقًا للبند الخامس، فإن مبدأ (نظرية) كارتر تم اختباره عندما قادت القوات الأميركية تحرير الكويت عام 1991 (10). لم تنسَ باقي دول مجلس التعاون الخليجي مضمون هذه الرسالة: احتفاظ الولايات المتحدة بحضور قوي في المنطقة واعتبارها الحَكَمَ الأخير في قضايا المنطقة الأمنية.  

في مثل هذه الحالة، ربما لم يكن ثمة مفر من أن تكون الشكاوى التي قدمتها السعودية والإمارات من سياسة قطر مصوغة، أساسًا، في عبارات اختيرت بعناية لإقناع الولايات المتحدة. فعند إعلان محاصرة قطر، كانت الشكوى الأساسية: تمويل قطر للإرهاب (11). ورغم أن هذا عامل قلق مشروع بكل تأكيد، إلا أنه لا يعني دولة قطر وحدها فلطالما كان أغلب الأميركيين ينظرون إلى المملكة السعودية على أنها المموِّل الأول لتنظيم القاعدة، وهم لا يكنون للمملكة مشاعر طيبة (12) على الرغم من تصدر السعودية لقيادة حملة مكافحة تمويل الإرهاب حاليًّا؛ فاللغة والاتهامات التي اختيرت لم تكن لتجد لها صدى لدى القطريين ولا لدى غيرهم من مواطني بلدان الخليج العربي؛ فقد تم اختيارها بشكل يُحدث صدى لدى الولايات المتحدة، وقد لاقت الاتهامات المقدمة من السعودية والإمارات ضد قطر قبولًا فعليًّا لديها من حيث المبدأ، وبدت لاحقًا وكأنها تدعم موقفهما. 

مع تواصل أزمة مجلس التعاون الخليجي، يبدو أن الطرفين غيَّرا من التركيز على حججهما المقدمة نحو السعي إلى التأثير داخل الدوائر الأميركية؛ فمنذ اندلاع الأزمة أنفق الطرفان ملايين الدولارات لحشد تأييد أكبر عدد من الدول؛ فقد عملت قطر على بعث نَفَس جديد أكثر حركية لتحفيز حضورها المتواضع في واشنطن وسعت لمواجهة الحضور الفاعل والحيوي لسفير دولة الإمارات المؤثر جدًّا في دوائر صنع القرار في واشنطن (13). لاقت تلك الجهود القطرية بعض النجاح؛ حيث بات عدد متزايد من المسؤولين والمراقبين ينظرون إلى النزاع الخليجي على أنه نزاع محلي يتطلب حلًّا محليًّا. وهو ما يُعتبر، بمقاييس مختلفة، نصرًا لقطر. 

ثمة حالة سابقة لهذا اللجوء إلى قوة خارجية، وهي حالة النزاع اليوناني-التركي؛ فخلال حقبة الحرب الباردة، وتحديدًا في أعقاب غزو قبرص عام 1974، كان الطرفان: اليوناني والتركي، على حافة الدخول في حرب بينهما. والطرفان عضوان في حلف شمال الأطلسي ويعتمد كلاهما على الولايات المتحدة كضامن نهائي لأمنهما (14). 

قرر الطرفان تقديم قضيتيهما والترويج لوجهتي نظرهما في واشنطن؛ وبعبارات رنانة في آذان الأميركيين حاول اليونانيون لفت النظر إلى التزامهم بقيم الديمقراطية، في حين ذهبت تركيا إلى التذكير بموقعها على الحدود السوفيتية والتزامها العسكري مع حلف الناتو. 

لعب التواجد العريض للجالية اليونانية في أميركا، في مقابل غياب حضور جالية تركية مهمة فيها، أحد العوامل التي زادت من تعقيد الحالة (15). وكانت تركيا هي الطرف الأقل تأثيرًا في كل المنصات والمنتديات السياسية الأميركية. لم يكن لهذا العامل دور يُذكر لصالح أي من الدول الخليجية؛ فهي جميعها غير ممثلة بما يكفي داخل النسيج الاجتماعي الأميركي. 

في ضوء هذا، يمكن تقييم الجهود القَطَرية المكثفة والمتواصلة في واشنطن على أنها الأكثر نجاحًا. في الماضي، كان الحضور القطري في واشنطن هزيلًا مقارنة بالحضور الأكثر انخراطًا وجرأة وبجهود لوبيات الضغط السعودية والإماراتية في كسب ولاءات في واشنطن. وعلى إثر فضيحة شركة موانئ دبي العالمية، عام 2006، عملت الإمارات، بشكل خاص، على جعل سفارتها أكثر السفارات تأثيرًا في واشنطن، في وقت لم يكن فيه لقطر حينها أي شأن يُذكر في ذلك السباق. لكن، منذ ذلك الحين، استطاعت قطر رد أغلب التشريعات العدائية أو محتملة العداء في واشنطن، وتمكنت من حشر جيرانها في زاوية مغلقة. وهذا يجب أن يُحسب نصرًا لقطر.   

لقد فعلت قطر أكثر من الدفع لجماعات الضغط؛ حيث استطاعت إشراك واشنطن بطريقة جديدة كليًّا. لقد كثف المسؤولون القطريون، على غرار وزير الخارجية، زياراتهم للولايات المتحدة وأجروا لقاءات مع المراسلين الصحفيين والأكاديميين والمحللين في مراكز البحوث بشكل قلَّ نظيره لدى نظرائهم من العالم العربي (16). أعلنت قطر عن مشاريع لتوسعة القاعدة العسكرية التي تستضيف القوات الأميركية، وهي المبادرة التي لاقت ترحيبًا كبيرًا في أميركا التي تمر بحالة تقشف مالي. كما تعاونت قطر في القضية المتعلقة بالأجواء المفتوحة وهي القضية التي كانت تشغل شركات النقل الجوي الأميركية وتؤرق العلاقات بين البلدين (17). أخيرًا، اشترت قطر كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية -وهي كميات تفوق بكثير ما يمكن لسكانها المحليين استخدامه فعليًّا- (18). كل هذه الخطوات جعلت قطر في دائرة الأضواء الإيجابية، وقوَّضت تدريجيًّا الصورة التي رسمتها عنها كل من السعودية والإمارات على أنها دولة مارقة معادية لمصالح الأميركيين. 

عسكريًّا، كان تحرك قطر الأساسي هو لعب ورقة قاعدة العديد الجوية المشتركة، وهي واحدة من أكبر القواعد الأميركية الموجودة في العالم، وهي القاعدة الأميركية الوحيدة في الخليج القادرة على استيعاب عمليات طائرة B-52(19). 

تستضيف قاعدة العديد المقر المتقدم للقيادة المركزية الأميركية الرئيسي، ومركز العمليات الجوية المشتركة، والمقر المتقدم لوحدة العمليات الخاصة التابعة للقيادة المركزية الأميركية. كما تتوفر القاعدة على مدرج رئيسي طويل، ومدرج مقوى، وعدد من السواتر، ومنطقة سكنية واسعة مزودة بوسائل الراحة للجنود الأميركيين، بالإضافة إلى تمتع القوات الأميركية بدرجة كبيرة من حرية الحركة. 

أدرك القطريون أهمية هذه القاعدة. وبالفعل، فإنه ومنذ بداية أزمة مجلس التعاون الخليجي، كان أحد أهم أهداف التحالف ضد قطر هو نقل مقر القيادة المركزية الأميركية من قاعدة العديد إلى قاعدة الظفرة الجوية في أبوظبي (20). وفي الوقت الذي كان فيه موقف وزارة الدفاع ثابتًا في معارضة الخطوة (غالبًا لأسباب تتعلق بالتكلفة وعدم وجود حاجة عسكرية تدعو لذلك)، فإن موضوع نقل القاعدة كان مطلبًا ثابتًا طيلة الأزمة. 

أدرك القطريون قيمة قاعدة العديد، وسعوا إلى زيادة قيمتها؛ ففي خطابه أمام لجنة الإرث، في يناير/كانون الثاني 2018، أعلن وزير الدفاع القطري عن زيادة عدد من الثكنات وافتتاح مدرسة أميركية في القاعدة، بالإضافة إلى مشروع إقامة منشأة بحرية أميركية في قطر (21). 

ومع الترحيب الذي قوبلت به هذه الإجراءات في واشنطن، إلا أنها لم تكن حاسمة. فقد سبق للولايات المتحدة في الماضي أن غادرت قواعد عسكرية عندما قدَّرت أنها إمَّا محدودة لدعم تحقيق الأهداف الأميركية أو لارتفاع تكاليف تشغيلها (22). وإذا ما فرضت قطر قيودًا على حركة القوات الأميركية العاملة على أراضيها، فإن قيمة القواعد ستنخفض بصرف النظر عن البنية التحتية التي تحتويها. لا يبدو أن الحال كذلك؛ فالقواعد في قطر نشطة ومقدَّرة وآخذة في التوسع. 

ثمة سوء فهم شائع يتعلق بمدى إمكانية استخدام تلك القواعد في صد أي هجوم عسكري ضد قطر. والحقيقة أن القاعدتين الأميركيتين الكبيرتين في قطر تختصان بالقيادة والمراقبة، والقوة الجوية والعمليات اللوجستية، ولا تتوفر القواعد الأميركية في قطر على قوات قتال بري. وفي حال اتخذ جيران مجلس التعاون الخليجي خطوات عسكرية ضد قطر فإن الرد الأميركي سيكون سياسيًّا وليس عسكريًّا. القوات الموجودة في تلك القواعد غير مؤهلة للدفاع ضد أي غزو بري محتمل؛ لذلك فإن الرد الأميركي المبدئي سيكون سياسيًّا وأي رد أو عمل عسكري لن يكون بأية حال انطلاقًا من المنشآت الأميركية. 

التحالف الأميركي-القطري أكبر من مجرد قواعد عسكرية، غير أن القواعد هي التعبير الظاهر عن تلك العلاقة، ومع ذلك، فلابد من عدم المبالغة في أهميتها. ففي حال تطورت قضايا أمنية جدية بين الولايات المتحدة وقطر، فإنه لن يكون للقواعد دور في التغطية على القضايا الأخرى. ومع أن استضافة المنشآت الأميركية العسكرية أمر مقدَّر، غير أنها لا تمنح صكًّا أبيض لتجاهل القضايا الأميركية الأمنية الأخرى. وقد شهد التاريخ الأميركي الحديث افتتاح وإغلاق عدد من القواعد العسكرية استجابة لتغير الأوضاع. الموقف القطري، في هذا الإطار، قوي لكنه لا يحظى بمناعة مطلقة، وما قد يخدم مصالح الجانب القطري، في هذا السياق، هو متابعة نفس الخطوات على غرار تلك التي اتخذها وزير دفاعها بإعلانه توسعة مشروع ثكنات الجنود الأميركيين في قاعدة العديد.