»

الخيارات الفلسطينية في مواجهة السياسة الأميركية الجديدة إزاء الملف الفلسطيني

06 آذار 2018
الخيارات الفلسطينية في مواجهة السياسة الأميركية الجديدة إزاء الملف الفلسطيني
الخيارات الفلسطينية في مواجهة السياسة الأميركية الجديدة إزاء الملف الفلسطيني

اصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "الخيارات الفلسطينية في مواجهة السياسة الأميركية الجديدة إزاء الملف الفلسطيني" أرتأى المركز نشرها للإطلاع والإستفادة كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة في الدراسة وكذلك المصطلحات المستخدمة فيها.

تقوم سياسة الإدارة الأميركية الجديدة على إضفاء الشرعية على الوقائع التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض، وتعمل السلطة الفلسطينية على مواجهة هذه السياسة بالسعي لإيجاد مجموعة دولية ترعى عملية السلام شبيهة بتلك التي تفاوضت على البرنامج النووي الإيراني حتى انتهت به إلى اتفاق دولي.

 مقدمة 

لا تزال تبعات اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل بشقيها الشرقي والغربي وفرضه مزيدًا من الضغوط على السلطة الفلسطينية ومؤسساتها تتفاعل داخل أروقة مؤسسات صنع القرار الفلسطيني. لقد أصبحت مدينة القدس قضية مثيرة للنزاع أكثر من أي وقت مضى. طلبت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي تشكِّل أعلى سلطة تنفيذية في المنظمة، من الحكومة الفلسطينية البدء فورًا في إعداد الخطط والمشاريع لفك الارتباط مع إسرائيل على كافة المستويات، بما فيها السياسية والأمنية والإدارية والاقتصادية. وبالرغم من أهمية القرار إلا أنه لم يخرج حتى اللحظة -كما يبدو- عن تكتيك فلسطيني لكسب مزيد من النقاط في أي مفاوضات مستقبلية. فحتى اليوم، لم تعلن القيادة الفلسطينية عن خطة متماسكة وواقعية يمكن أن تقرِّب الفلسطينيين خطوة واحدة إضافية من حلم إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة منذ عام 1967. تناقش هذه الورقة وتحلِّل استراتيجية ترامب لتسوية الصراع العربي-الإسرائيلي والخطوات الفلسطينية التي اتُّخذت للتعامل معها وآفاقها. وتستعرض في النهاية السيناريوهات التي يمكن للفلسطينيين أخذها بعين الاعتبار في خطواتهم المستقبلية.  

"صفقة القرن" 

منذ فوز الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالرئاسة الأميركية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ظهر العديد من التسريبات حول استراتيجيته لتسوية النزاع العربي-الإسرائيلي والتي تم وصفها بـ"صفقة القرن". تحتوي استراتيجية ترامب، والتي من المتوقع أن تُعلَن خلال الأشهر المقبلة، على مجموعة من المحاور الهادفة إلى تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من سبعين عامًا. وبناء على التسريبات المختلفة التي بدأت تظهر منذ أواخر العام 2017، يمكن تلخيص استراتيجية ترامب بثلاثة محاور أساسية والتي تشمل تَصْفِيَة القضايا الكبرى بما فيها مسألتا القدس واللاجئين، وبناء تحالف إقليمي يضم إسرائيل ويستهدف إيران وحركات المقاومة، وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السيادة والصلاحيات. 

أولًا: تصفية القضايا الكبرى: استمرت مجموعة من القضايا الكبرى، منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى اليوم، في عرقلة التوصل إلى حل يُنهي النزاع العربي-الإسرائيلي. تمثل أهم هذه القضايا في مسألة السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وتسوية عادلة لمسألة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجرتهم إسرائيل خلال حربي عام 1948 و1967، ومستقبل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتحديد حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية. وبسبب الطبيعة الخاصة والحساسة لهذه الملفات، يبدو أن إدارة ترامب تعمل على تفتيتها عن طريق الخطوات الأحادية وفرضها بالإكراه على الجانب الفلسطيني. ويبدو أن التسريبات حول صفقة القرن قد بدأت في التحول إلى خطوات عملية على أرض الواقع. يمكن القول بأن خطوة ترامب في الاعتراف بمدينة القدس موحدة بشقيها الغربي والشرقي عاصمة لإسرائيل والتخطيط لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة كانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه(1). فخلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على هامش منتدى دافوس الاقتصادي بسويسرا، يناير/كانون الثاني 2018، صرَّح ترامب بأن الهدف من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل هو إزالتها من طاولة المفاوضات(2). ويبدو أن مسألة اللاجئين ستشكِّل الخطوة التالية لإدارة ترامب؛ حيث بدأت الولايات المتحدة بالفعل في تخفيض دعهما المالي لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)(3). 

أما فيما يتعلق بالاستيطان، فلا يزال موقف الإدارة الأميركية غامضًا للغاية تجاه هذه المسألة وربما تسعى من ذلك إلى تجاهل الأمر الواقع لإقراره فيما بعد. يعيش في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، حوالي 640 ألف مستوطن بحسب التقديرات الإسرائيلية وسط 2.6 مليون فلسطيني. شكَّل الموقف من الاستيطان العقبة الرئيسية في استئناف المفاوضات ما بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي منذ توقفها في العام 2014. فقد رفضت تل أبيب وقف الاستيطان وقبول حدود عام 1967 كأساس لحل الدولتين. تُمزِّق المستوطنات الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة مع سيطرتها، في أغلب الأحيان، على تلال الجبال المرتفعة، والريف الفلسطيني، وأحواض وآبار المياه الجوفية الفلسطينية. وتُضاعِف الحكومة الإسرائيلية حاليًّا جهودها لزيادة عدد المستوطنين عن طريق البناء الاستيطاني وتشريع الاستيطان مع تجاهل كامل لذلك من الإدارة الأميركية. أعلنت حركة "السلام الآن"، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية معارضة للاستيطان، أنه جرت الموافقة على 6742 مشروع بناء في المستوطنات عام 2017 وهذا أعلى رقم منذ عام 2013(4). وفي ضوء الدعم الكامل من الإدارة الأميركية، فإن الهدف الإسرائيلي يتمثل في ضم المستوطنات لإسرائيل واستثمار الدعم الأميركي لتغيير الواقع بما يخدم المصالح الإسرائيلية في أي حلول مستقبلية. 

ثانيًا: تفاهمات إقليمية: تسعى الخطة الأميركية إلى بناء شبكة من التحالفات الإقليمية تضم مجموعة من الدول العربية الوازنة مثل السعودية ومصر، إلى جانب إسرائيل. يستجيب الحلف الجديد للمصالح الإسرائيلية الإقليمية وخاصة تحجيم النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد في سوريا التي يبدو أن الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني قد بدأ فيها بالفعل مع إسقاط الطائرة الإسرائيلية المقاتلة من قِبَل القوات السورية في 10 فبراير/شباط 2018. ويهدف التحالف أيضًا إلى التعامل مع التهديدات الناشئة عن المنظمات والحركات التي تتبنى المقاومة مثل حركة المقاومة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان. وهناك تسريبات عديدة في هذا الجانب تلفت بصورة محددة إلى دور ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في ممارسة ضغوط شديدة على الرئيس الفلسطيني للاستجابة للمقترحات الأميركية مع تهديدات بقطع المساعدات المالية للسلطة في حال عدم الاستجابة(5). 

ثالثًا: إقامة دولة فلسطينية مع ترتيبات خاصة: تشمل الرؤية الأميركية أيضًا إقامة دولة فلسطينية ولكن ضمن ترتيبات خاصة(6)؛ فمسألتا القدس وعودة اللاجئين ليستا ضمن حسابات الخطة الجديدة ويُترَك التباحث حولهما لفترة لاحقة. وتنشأ الدولة الفلسطينية على قطاع غزة ومناطق "أ" و"ب" وبعض أجزاء من منطقة "ج" في الضفة الغربية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن السلطة الفلسطينية لا تملك السيطرة الفعلية على قطاع غزة، فإن الدولة الفلسطينية الموعودة ستكون محصورة فقط في مدن الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية المرتفعة مثل نابلس وجنين وطولكرم في الشمال، ورام الله في الوسط، والخليل وبيت لحم في جنوب الضفة الغربية. وبالمحصلة النهائية، يبدو أن الخطة سوف تأخذ بعين الاعتبار الشروط الإسرائيلية الرافضة لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967 مع إبقاء سيطرة إسرائيل على المعابر والحدود مع الأردن، المتنفس الحدودي الوحيد للدولة الفلسطينية مع العالم الخارجي، وسيطرة عسكرية دائمة في منطقة الأغوار التي تشكِّل ما مساحته 24.5% من مساحة الضفة الغربية(7). 

ورطة عباس 

سارع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى رفض الخطة الأميركية التي وصفها بـ"صفعة العصر" في دلالة واضحة على رفض القيادة الفلسطينية لها(8). فلا يزال عباس من أقوى المدافعين عن عملية السلام وربط مصيره بالمفاوضات الثنائية مع الجانب الإسرائيلي تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية دون أن يطوِّر خطة بديلة بعد أن ألقى جميع أوراق القوة في سلة الولايات المتحدة الأميركية. ومنذ إعلان ترامب مدينة القدس عاصمة لإسرائيل، بدأ الرئيس الفلسطيني يتحرك على أكثر من اتجاه لإفشال الخطط الأميركية؛ فقد أعلن عن رفضه لهيمنة الولايات المتحدة على عملية السلام ويحاول جاهدًا دفع قوى جديدة للانخراط في المباحثات. ويتطلع عباس إلى المفاوضات التي أفضت إلى الاتفاق النووي الإيراني كنموذج يمكن إعادة استخدامه. وفي النموذج الإيراني، لعبت كل من الدول الست (الصين، وروسيا، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا) دورًا مهمًّا في الضغط على أطراف النزاع المتعددة للتوصل إلى اتفاق لوزان والذي ضَمِن التسوية الشاملة والسلمية للبرنامج النووي الإيراني. وعلى غرار اتفاق لوزان، يسعى عباس إلى أن تلعب أطراف دولية مثل الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين، دورًا موازيًا للدور الأميركي. 

ولكن، على العكس من النموذج الإيراني، فإن موازين القوى التي أجبرت القوى الدولية على لعب دور مهم في إنجاح المفاوضات، غير متوفرة لدى القيادة الفلسطينية. لذلك، يقف عباس اليوم في موقف حرج؛ فهو لا يستطيع التراجع والانقلاب على أسس التسوية خوفًا من غضب الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، ولا يستطيع أيضًا قبول الرؤية الأميركية للحل والمرفوضة شعبيًّا وحزبيًّا من قبل الفلسطينيين. وفي حال قبول هذه الخطة، فإن عباس سوف يعرِّض نفسه للانتحار السياسي. فبعد أيام من قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، طالب 70% من الشعب الفلسطيني "عباس" بالاستقالة(9)، لاسيما أن اعتقادًا واسعًا يسود بأن مشروعه السياسي انتهى بالفشل. 

فالأطراف الدولية التي يعوِّل عليها عباس لا تستطيع في هذه المرحلة أن تحل مكان الولايات المتحدة الأميركية، فعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يُعتبر من أبرز ممولي السلطة الفلسطينية إلا أن هناك خلافات شديدة داخل الاتحاد حيال الموقف من إسرائيل وبالتالي سينسحب الخلاف على إمكانية ممارسة ضغوط سياسية عليها. فهذا الدور سوف يصطدم على الأغلب بموقف بعض الدول الفاعلة في الاتحاد (مثل ألمانيا واليونان) والتي لا تفضِّل حتى اللحظة ممارسة ضغوط واسعة على إسرائيل التي تربطها بها علاقات قوية. كما أن روسيا والصين لا يمكن التعويل عليهما في هذا الشأن، فروسيا، التي زارها عباس قبل أيام، 14 فبراير/شباط 2018، تهتم بصورة أساسية بحماية مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط وخاصة في سوريا التي تدعم فيها نظام بشار الأسد، وتشاركه في حربه ضد المعارضة المسلحة. فهي، على الأغلب، لن تضحي بتنسيقها الأمني والعسكري مع تل أبيب في الملف السوري لصالح الفلسطينيين. كما أن الصين تتمتع بعلاقات اقتصادية مميزة مع إسرائيل، حيث تعتبر الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل في آسيا، وثالث أكبر شريك لها على مستوى العالم، بحجم تبادل تجاري يصل إلى 11 مليار دولار. هذه التشابكات الاقتصادية والعسكرية ربما تضعف بعض الشيء من قدرة كل من الصين وروسيا، للعب دور فاعل كوسيط لعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين(10). 

فك الارتباط مع إسرائيل 

ضمن مساعي القيادة الفلسطينية لخلق ضغوط متزايدة على الجانب الإسرائيلي والإدارة الأميركية والمجتمع الدولي للتحرك لإنقاذ عملية السلام، طلبت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من حكومة الوفاق الفلسطينية، في 3 فبراير/شباط 2018، البدء فورًا بإعداد الخطط لفكِّ الارتباط مع الاحتلال في جميع المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية(11). استجابت الحكومة الفلسطينية لهذا القرار وشكلت لجنة من الوزارات المختصة للبدء بإعداد الدراسات والمشاريع والمقترحات المطلوبة لفك الارتباط مع إسرائيل بما يشمل التحرر من اتفاق باريس الاقتصادي والانتقال من استخدام عملة الشيكل الإسرائيلي إلى أية عملة أخرى ودراسة إمكانية إصدار عملة وطنية(12). 

يسعى عباس والقيادة الفلسطينية إلى توظيف هذا القرار لتفعيل أدوات ضغطها على إسرائيل للاستجابة إلى المتطلبات الفلسطينية القاضية بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. وهنا، تعوِّل القيادة الفلسطينية على التلويح بوقف التنسيق الأمني الذي يعتبر حيويًّا للجانب الإسرائيلي. تكتسب السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الضفة الغربية أهميتها وفاعليتها من التنسيق الحيوي مع الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وخاصة جهازي المخابرات العامة والأمن الوقائي. سيؤدي الوقف الحقيقي والفعلي للتنسيق الأمني مع إسرائيل إلى أضرار بالغة على منظومة الأمن وشبكتها المعقدة والممتدة في الضفة الغربية. فعلى الرغم من أن المجلس المركزي الفلسطيني، وهو أعلى هيئة تشريعية للشعب الفلسطيني، قرَّر في عام 2015 إنهاء التعاون الأمني مع إسرائيل، إلا أن القرار بقي حبرًا على ورق(13)؛ فلا تزال السلطة تتمسك وتنخرط وبقوة في التنسيق مع إسرائيل في عملياتها الأمنية ضد المقاومة في الضفة الغربية. ففي أحدث تفاعلات الموقف من التنسيق الأمني، طُرِد عزام الأحمد، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، في 9 فبراير/شباط 2018، من خيمة عزاء أحمد جرار في العاصمة الأردنية، عَمَّان، وذلك بسبب اتهام الأجهزة الأمنية الفلسطينية بتقديم معلومات لقوات الأمن الإسرائيلي قادت لاغتيال جرار(14). لا يقدِّم التنسيق الأمني المعلومات الأمنية لإسرائيل فقط، بل هناك تعاون لصيق ما بين الطرفين لوقف أي تصاعد لنشاطات المقاومة في الضفة الغربية والتي يمكن أن تخرج عن سيطرة الجانبين وتهدد الاحتلال وبنية السلطة الهشة في الضفة الغربية. 

بالإضافة إلى ذلك، فإن التهديد بفكِّ الارتباط عن إسرائيل يحمل رسائل تحذير متعددة للمجتمع الدولي، وخاصة الاتحاد الأوروبي بأن مشروع التسوية قد فقد قابليته للتطبيق مع إمكانية سحب السلطة الاعتراف بإسرائيل وتنصلها من الاتفاقيات الثنائية المرتبطة بعدد كبير من الاتفاقيات الاقتصادية، والإدارية، والأمنية. لكن، التهديدات الفلسطينية تفتقد لقراءات دقيقة لمعطيات الأمر الواقع. طبَّقت إسرائيل، منذ اتفاق أوسلو، سياسات أمنية واقتصادية وإدارية رهنت وجود السلطة الفلسطينية واستمراريتها بالقبول الإسرائيلي. ومن الناحية الفعلية، إسرائيل هي من تحاول أن تنفك عن الفلسطينيين بما يحقق مصلحتها وليس العكس؛ فلم تبذل السلطة خلال السنوات الماضية أي مجهود حقيقي لتقليل الاعتماد على إسرائيل وبالتالي الانفصال عنها. بالمقابل، تعمل إسرائيل وبشكل ممنهج منذ أكثر من عشر سنوات على الانفكاك عن الفلسطينيين مع بقاء سيطرتها الأمنية. ففي عام 2005، نفَّذت حكومة أرييل شارون خطة انسحاب إسرائيلي أحادي للمستوطنين وجنود الاحتلال من قطاع غزة لكنها أبقت سيطرتها الأمنية هناك. ومنذ ذلك الوقت، يخضع قطاع غزة لحصار مشدد تتحكم فيه إسرائيل بالمعابر والحدود. وفي الضفة الغربية، تنفذ الحكومة الإسرائيلية، منذ العام 2010، سياسات متناسقة لاستعادة غالبية السلطات المدنية التي منحتها للسلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو. كما أن الإدارة المدنية الإسرائيلية عزَّزت من تفاعلها حاليًّا مع المجتمعات الفلسطينية المحلية وخاصة في المناطق "ج" الخارجة عن سيطرة السُّلطة الفلسطينية. وتهدف إسرائيل من ذلك إلى الارتباط بصورة مباشرة ودون المرور عبر مؤسسات السلطة الفلسطينية كما كان متبعًا من قبل. فعلى سبيل المثال، طورت إسرائيل حاليًّا من أساليب تواصلها مع المواطن الفلسطيني عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والواتساب؛ وذلك لكي تحقق هدفين مترابطين: تجاوز مؤسسات السلطة من جهة وخلق روابط جديدة (وبديلة) مع المواطنين الفلسطينيين والذين يسعون إلى تسيير حياتهم اليومية. فصفحة "المنسق" على الفيسبوك، والتي تتبع مباشرة لوزارة الدفاع الإسرائيلية ويتابعها حوالي 350 ألف مشترك، تقدم عروضًا متنوعة للفلسطينيين من الإعلان عن "الرفع الأمني"، والحصول على تصاريح الزيارة، لدرجة تلقي طلبات "إنسانية" للعلاج في إسرائيل أو المرور عبر الحواجز الإسرائيلية. لذلك، يمكن القول بأن إسرائيل هي التي تعمل وضمن استراتيجية ثابتة على الانفصال عن السلطة، وليس العكس. 

وبخلاف الانفكاك عن قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيها، تسعى إسرائيل حاليًّا إلى ضم مستوطنات الضفة الغربية وشرعنة وجودها فيها، وهو ما يمكن أن تغضَّ الإدارة الأميركية طرف عينها عنه. فهناك مشروع يتم تداوله في الكنيست الإسرائيلي للتصويت على ضم المستوطنات في الضفة الغربية لإسرائيل وتطبيق القانون الإسرائيلي عليها، وهو المشروع الذي يتبناه ويدعمه حزب الليكود الإسرائيلي. فالضفة الغربية اليوم مقسمة إلى كانتونات تخضع بالكامل للسيادة الإسرائيلية، فإسرائيل لا تسيطر فقط على المدن والتجمعات السكانية عن طريق الحواجز والمستوطنات والنقاط العسكرية، بل أصبح الريف الفلسطيني بالكامل أيضًا مقسمًا إلى مناطق متعددة تتحكم فيها إسرائيل وتستغلها. فالذي ينطلق اليوم في سيارته من وسط الضفة الغربية إلى شمالها أو جنوبها، سيكتشف بكل سهولة، أن فكرة إقامة دولة فلسطينية في ظل واقع المستوطنات والطرق الالتفافية التي تستخدمها المستوطنات، والجدار، والحواجز العسكرية، غير قابلة للتطبيق. فعلى سبيل المثال، إغلاق حاجز عطارة في منطقة رام الله لا يفصل فقط مركز مدينة رام الله عن ريفها، بل يعزل أيضًا بصورة شبه كاملة شمال الضفة الغربية عن وسطها وجنوبها، والعكس. 

ويزداد وضع السلطة الفلسطينية تدهورًا مع استمرار الصراع الفلسطيني الداخلي والانقسام ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين. تجعل هذه الأوضاع خيارات السلطة في غاية الهشاشة؛ فهي لم تطور آليات مقاومة داخلية للرد على الخطوات الإسرائيلية الميدانية على أرض الواقع من جهة، ومن جهة أخرى، فقدت تدريجيًّا شرعيتها ومصداقيتها الشعبية. ربما تدفع هذه الظروف السلطة الفلسطينية إلى السعي إلى تجديد شرعية قياداتها ولكن هذا المسار لن يكون محاطًا بالورود بل بالصراعات والنزاعات الداخلية. فالأوضاع الداخلية الفلسطينية تختلف حاليًّا عن مرحلة حصار الرئيس ياسر عرفات وإخراجه من اللعبة السياسية في عام 2004، ويتمثل الفارق الأبرز في عدم تبلور كتلة صلبة داخل مؤسسات السلطة الفلسطينية (وخاصة الأمنية) وحركة فتح لقيادة زمام الأمور، كما كان الوضع أثناء حصار عرفات والذي شهد في تلك الفترة تحالف محمود عباس، صاحب النفوذ في منظمة التحرير آنذاك، مع محمد دحلان، صاحب النفوذ في الأجهزة الأمنية، وخاصة الأمن الوقائي. لذلك، فإن الأسماء المطروحة حاليًّا لخلافة محمود عباس لن تستطيع بسهولة إدارة دفة سفينة السلطة الغارقة، فكل من رئيس الوزراء السابق، سلام فياض، أو رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، اللواء ماجد فرج، يملك نقاط قوة ونقاط ضعف في آن واحد. فسلام فياض مقبول دوليًّا وأميركيًّا لكنه لا يملك نفوذًا على الأجهزة الأمنية. وماجد فرج، يملك نفوذًا دوليًّا وإقليميًّا وداخل الأجهزة الأمنية لكنه يعاني من منافسة شرسة من داخل حركة فتح.