»

ما الذي ينتظر سوريا بعد الانسحاب العسكري الروسي؟

02 آذار 2018
ما الذي ينتظر سوريا بعد الانسحاب العسكري الروسي؟
ما الذي ينتظر سوريا بعد الانسحاب العسكري الروسي؟

اصدر مركز الجزيرة للدراسات دراسة تحت عنوان "ما الذي ينتظر سوريا بعد الانسحاب العسكري الروسي؟" أرتأى المركز نشرها للإطلاع والإستفادة كما يلزم علماً أن المركز لا يتبنى بالضرورة وجهات النظر الواردة في الدراسة وكذلك المصطلحات المستخدمة فيها.

لا تتمثل الخلاصة الأهم، التي انتهى إليها مؤتمر سوتشي، فقط في كشف عجز موسكو على التأثير في مواقف المعارضة، وإنما أيضًا في محدودية نفوذها حتى على ممثلي مختلف الجماعات الإثنية والأحزاب السياسية الموالية لها.

مقدمة 

أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال زيارته لقاعدة حميميم العسكرية ضمن جولته شرق الأوسطية في ديسمبر/كانون الأول 2017، انسحاب القوات العسكرية الروسية من سوريا، لكنه أضاف أيضًا أن قوات عسكرية روسية محدودة ستبقى مرابطة في قاعدتي حميميم وطرطوس العسكريتين من أجل ضمان الاستقرار في سوريا. يأتي إعلان هذا التحول في سياسة الكرملين تجاه سوريا عشية انطلاق حملات الانتخابات الرئاسية وكذلك في الوقت الذي تواصل فيه روسيا، ليس فقط السعي إلى الحفاظ على مواقعها العسكرية داخل سوريا، بل وأن تلعب أيضًا دورًا حيويًّا في رسم مستقبل القضية السورية. غير أن الانتقال التدريجي من حالة النزاع المسلح إلى عقد جلسات حوار ومناقشة ترتيبات مرحلة ما بعد الأزمة في سوريا، كما حدث في مؤتمر سوتشي، يثير السؤال حول الكيفية التي ستُمكِّن روسيا من المحافظة على تأثيرها في المنطقة.

يبدو أن الهدف من هذه التحركات الروسية هو استكمال تفعيل الدور الرسمي للحكومة الروسية في تعزيز فرص بوتين في معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، كما أن على الحكومة تهيئة كل الظروف الإيجابية والمواتية للقيادة الروسية من أجل إدارة عملية التفاوض حول مستقبل سوريا. والسؤال المطروح هنا هو: هل ستتمكن روسيا من الوفاء بوعودها هذه المرة، على عكس ما حدث في شهر مارس/آذار عام 2016، خاصة وأن الوضع الميداني العسكري في سوريا قد طرأت عليه تغيرات ملحوظة؟ 

الانسحاب المُعلن يراوح مكانه 

يمكن أن يُنظر إلى استكمال عمليات تحرير الموصل -معقل تنظيم "الدولة الإسلامية" ومركزها الأيديولوجي- وما تلاه من تحرير الرقة -مركزها السياسي- على أيدي قوات التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة أميركا بالإضافة إلى النجاحات العسكرية التي حققها الجيش السوري النظامي في دير الزور شرقي سوريا، على أنه انتصار على تنظيم الدولة. 

من المرجح جدًّا أن تبدأ كل من روسيا وإيران وتركيا عمليات مشتركة تستهدف تنظيم "تحرير الشام" داخل ما يسمى بمنطقة إدلب الكبرى، ومن ثم تقسيمها إلى مناطق نفوذ. ونتيجة لذلك، فسيكون بالإمكان تحديد واحدة من آخر بؤر التوتر في الصراع السوري. وفي أدنى تقدير، فإنه سيكون للعملية البرية التركية المسماة "غصن الزيتون" التي بدأت في عفرين بتنسيق مع موسكو، تأثير مباشر على الوضع في إدلب. وبما أن العملية العسكرية التركية حصلت على "ضوء أخضر" روسي، فإن بإمكان موسكو التعويل على خطوات تركية إضافية مضادة في إدلب. ففي الأسابيع الأخيرة (ما بين يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2018)، أحكمت تركيا قبضتها على المناطق الواقعة تحت سيطرتها ولم تسمح للمعارضة المعتدلة بالمشاركة الكاملة في المعارك الدائرة في محيط إدلب؛ حيث يشن الجيش النظامي السوري، منذ بداية شهر يناير/كانون الثاني 2018، عملية واسعة النطاق لاستعادة السيطرة على أبوالظهور. 

الآن، وبعد عامين من بدء الدعم الروسي والنشاطات العسكرية لعدد من الجماعات المسلحة "المتشددة"، تضاءل حجم وإمكانات شريحة كبيرة من المعارضة إلى أبعد الحدود، وتم وضع حدٍّ لأغلب الأنشطة المعادية. وبعد ما يقرب من سبع سنوات من اندلاع هذا الصراع المنهك والدموي، فإن تحقيق السلام والاستقرار والقضايا المتصلة به بات أكثر أهمية من القضايا المتعلقة بآليات الوصول إلى السلطة وشكل النظام السياسي السوري في المستقبل. وتفترض هذه الديناميات أهمية تفكيك مضامين الإعلان الروسي القاضي بانسحاب روسيا من الصراع المسلح، لكن دون الانسحاب من الأزمة السورية بمجملها. 

عرفت دبلوماسية موسكو تجاه القضية السورية، خلال الأشهر الأخيرة من عام 2017، حراكًا ذا وتيرة محمومة؛ فخلال مشاركتهما في قمة العشرين التي احتضنتها مدينة دانانغ في فيتنام، أصدر الرئيسان، فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، بيانًا مشتركًا جاء فيه أنه لا بديل عن الحل السياسي في الصراع السوري، مؤكِّديْن التزامهما بعملية جنيف الدبلوماسية وكذلك بالمبادئ الواردة في قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 2254. لكن، وخلال أيام قليلة بعد ذلك، وجَّه وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، اتهامًا علنيًّا إلى البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة بأنها لم تبذل ما يكفي من جهد في الدفع نحو تسوية للصراع السوري. كما رأى لافروف أن على روسيا، بمشاركة بعض الفاعلين الإقليميين خاصة إيران وتركيا، تقديم دفع جديد لعملية "المصالحة السياسية" في سوريا. 

أثار هذا التصريح جدلًا بين المحللين السياسيين حول ما إذا كانت روسيا جادة بالفعل في الحفاظ على عملية جنيف، بل ذهب بعضهم في تحليلاته إلى أن الكرملين سعى إلى التقليل من أهمية محادثات جنيف واستبدال محادثات آستانا بها، التي يقودها بالأساس فاعلون إقليميون وآخرون يُحسَبون ولو بشكل من الأشكال على موسكو. وإذا ما تحدثنا عن اللاعبين الفاعلين الإقليميين، فإن روسيا هنا أيضًا تبدو غير منسجمة في مواقفها؛ فبدلًا من البدء بإطلاق محادثات آستانا، قررت روسيا استضافة مؤتمر الحوار الوطني السوري. وفي الوقت الذي تغازل فيه الأكراد السوريين، تعمل موسكو بشكل واضح على تعبيد طريق للتعاون مع تركيا وإيران؛ حيث التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مؤخرًا نظيريه: التركي، رجب طيب أردوغان، والإيراني، حسن روحاني، مرتين. ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق أن روسيا كانت تنسق بشكل مستمر مع الجانب الإسرائيلي فيما يتعلق بمسألة إقامة مناطق خفض التصعيد في الجنوب الغربي السوري. وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في الرابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قد وصف التواجد العسكري الإيراني في سوريا بـ"المشروع"؛ مفنِّدًا بذلك مزاعم المسؤولين الأميركيين بأن موسكو أمَّنت انسحاب القوات الإيرانية من الأراضي السورية المحاذية للحدود مع إسرائيل. 

موسكو أسيرة الحملة الانتخابية 

تبدو تحركات موسكو الدبلوماسية مع مساعدة بعض القوى الغربية لها، أكثر منطقية وتناسقًا؛ فأولًا: من الضروري الأخذ في الاعتبار الأحداث الأخيرة في سوريا وتأثيرها على مستوى مجمل المكون السياسي الداخلي في البلاد، فإعلان الرئيس بوتين النصر العسكري على الجماعات "المتشددة" وما تبعه من إعلان سحب القوات الجوية والبرية الروسية من سوريا في ديسمبر/كانون الأول 2017، كان حملة ترويجية ناجحة برَّرت مواصلة روسيا لعب أدوار متقدمة في الصراع السوري الداخلي الطويل. أما ثانيًا: فقد كان من المهم للرئيس الروسي إطلاق حملته الانتخابية بشكل "صادم"، وإظهار أنه تمكن من سحق "الإرهابيين" بقوة غاشمة ومن دون دفع دماء كثيرة في معركة تجري على أرض بعيدة عن روسيا. واختار بوتين عشية إعلانه الترشح لولاية رئاسية جديدة، توقيتًا لإعلان إلحاقه الهزيمة بقوات تنظيم الدولة وعودة قوات بلاده العسكرية من سوريا "مظفرة"، في 11 ديسمبر/كانون الأول 2017. 

يمكن للبعض المجادلة بأن كل التحركات الروسية تجاه الأزمة السورية، بما في ذلك دعوة منتدى فالداي في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017، لعقد مؤتمر الشعب السوري في سوتشي في توقيت غير بعيد عن موعد تنظيم الانتخابات الرئاسية، قد حددتها بدقة أجندة السياسة الروسية الداخلية. وعلى الرغم من أن القيادة الروسية أعلنت على الملأ تنفيذها لكل أهدافها المرسومة في سوريا وتحييد التهديد الإرهابي، إلا أن ثمة خطرًا جديًّا قد يعيد جرَّ أقدام روسيا إلى الحرب السورية؛ ففي حالة حدوث أي تصعيد للوضع هناك، سيكون من الصعب على موسكو تبرير حاجتها إلى تعزيز قواتها الجوية أو البرية أمام مواطنيها، فالرئيس بوتين قد سبق له أن أعلن النصر على "الإرهابيين". لكن، بإمكانه إصدار قرار بتعزيز القوات دون إعلانه للشعب، ولن يحتاج الأمر حينها إلى تقديم أي تفسيرات؛ لأن حجم وتعداد القوات الروسية لم يتم الإفصاح عنه أصلًا.

بناء على ما تقدم، فإنه يجب ألا تصبح المشاركة العسكرية الروسية في الصراع السوري عبئًا على عاتق فلاديمير بوتين في فترة ولايته الرئاسية القادمة. وعلى بوتين أن يتقدم لخوض الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في مارس/آذار 2018، وهو يرتدي ثوب صانع السلام في عيون الرأي العام الروسي، وأن يبدو ذلك بفضل إنجازاته في سوريا. أما التقارير المتعلقة بالعمليات العسكرية على الميدان فبالإمكان استبدالها بصور زاهية عن "عودة الحياة السلمية" لتدلل على استقرار مكانة موسكو وحضورها المؤثر إيجابيًّا في المنطقة. يعزِّز هذا المشهد حاجة القيادة الروسية لبذل قصارى جهدها في دفع عملية الحوار ومعالجة القضايا المرتبطة بعملية إعادة بناء الاقتصاد السوري. 

وكما سبقت الإشارة إليه، فإن انسحاب القوات الروسية من سوريا تزامن مع إعلان حملة ترشح بوتين للانتخابات الرئاسية، وقد كان بوتين على صواب عندما قال: إن سوريا تختلف عن أفغانستان، كما أن حرب الشيشان الثانية غير الأولى، مع أن عملية سوريا خُطِّط لها لتكون قصيرة الأمد، غير أن الخطة لم تُنفذ بالكامل. فبعد عامين من انخراط روسيا عسكريًّا في الصراع السوري، ومع أن أغلب الروس يعتبرون أن لذلك الانخراط ما يبرره، إلا أن الأجواء مليئة بالأخبار المرهقة عن تلك الحرب الدائرة في ميدان قتال بعيد جغرافيًّا. 

في هذا السياق، كان من المهم بالنسبة لبوتين لعب الورقة السورية في حملته الانتخابية، وعلى الأرجح أنه سيستمر في ذلك طالما بقي الرأي العام مهتمًّا بالقضية السورية، غير أن إحصاءات مؤسسة استطلاع الرأي العام تبين أن نسبة أولئك الذين يتابعون الوضع في سوريا عن كثب قد تراجعت من معدل 30% إلى 24% في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2015 وأكتوبر/تشرين الأول 2017. 

تضاؤل الرصيد الروسي لدى سوريا 

بقطع النظر عن الدعم الروسي، فإنه يمكن لبشار الأسد اعتبار نفسه الرابح في الحرب الأهلية الدائرة رحاها في سوريا. لكن، هذه النتيجة لا تضمن لموسكو وضعًا مريحًا في مرحلة ما بعد الحرب السورية. فأثناء سير العمليات العسكرية، كانت دمشق تعتبر الدعم العسكري الروسي أهم جزء في التدخل الروسي بالمقارنة مع أي دعم آخر سواء أكان دبلوماسيًّا أم سياسيًّا. إلا أنه، ومع التحول إلى مرحلة ما بعد الصراع، فإن أهمية البعد العسكري ستتضاءل تدريجيًّا فاسحة المجال أمام أبعاد التعاون المالية والاقتصادية، ومن شأن هذا التحول أن يدعو موسكو إلى فهم أفضل لطبيعة المرحلة. 

ومع نهاية العام 2017، نجحت روسيا في تنفيذ أهدافها الرئيسية لحملتها العسكرية في سوريا، والتي تم وضعها قبل عامين من تاريخ إطلاقها؛ فأولًا: تمكنت موسكو من تحويل أنظار المتابعين من التركيز على الصعوبات الاقتصادية الداخلية الناجمة عن تداعيات أزمة شبه جزيرة القرم، إلى التركيز على أجندة السياسية الخارجية الروسية. كما تمكنت القيادة الروسية أيضًا من تحشيد قاعدتها الشعبية وتعزيز الوحدة بين الحكومة والشعب على جبهة واحدة مشتركة ضد عدو خارجي. 

ثانيًا: نجحت موسكو في الخروج من حالة العزلة الدبلوماسية التي فُرضت عليها، ويتجلى ذلك التحول بإقامة علاقات وطيدة مع نظام الأسد. وقد أرسلت روسيا إلى المجتمع الدولي رسالة قوية مفادها أن إسقاط الرئيس السوري أمر غير مسموح به، وأن مصيره السياسي لا يمكن أن يحدد خارج إطار التفاوض مع موسكو. وبذلك استطاعت موسكو العودة إلى الساحة الدولية بعد التخلص من تبعات سياسة العزلة المفروضة عليها من قبل الغرب.  

لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن المحافظة على النظام البعثي السوري، بالإضافة إلى الإبقاء على قاعدتي حميميم وطرطوس، لا يعني بالضرورة انتصار روسيا؛ فالنجاحات التكتيكية لم تُلْغِ التحديات الاستراتيجية التي تحاول القيادة الروسية حاليًّا التعامل معها. فموسكو لم تستطع تحويل حملتها العسكرية في سوريا إلى عامل يساعدها في التخفيف من العقوبات المفروضة عليها أو تعديل موقف القوى الغربية من قضية أوكرانيا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن روسيا تواجه تحديًا آخر على درجة كبيرة من الأهمية: تحويل نجاحاتها العسكرية إلى رصيد دبلوماسي. ولعل هذا هو ما يفسِّر حاجة روسيا إلى وجود طرق فعَّالة لتعزيز دورها المستقبلي في عمليات إعادة البناء والعدالة الانتقالية. 

باعتبار بلاده قوة إقليمية منخرطة في سوريا، أجرى الرئيس الإيراني حسن روحاني اتصالًا هاتفيًّا ببشار الأسد يخبره فيه بأن إيران جاهزة ومستعدة لـ"المشاركة الفعَّالة في عملية إعادة بناء سوريا"، وهو ما يمكن أن يُفهم منه أن روسيا ليست هي صاحبة اليد العليا في سوريا، بل ومن الممكن أيضًا أن تجد نفسها مجبرة على البحث عن حلفاء جدد في سوريا بدلًا من طهران وأنقرة، ولذلك تبنَّى الكرملين استراتيجية تسريع وتيرة المحادثات وجعلها تحت سيطرته كما اتضح ذلك في مؤتمر سوتشي المنعقد بداية شهر فبراير/شباط 2018.  

ثمة عامل آخر أيضًا أدخل حيوية على الدور الروسي في الصراع السوري يتمثل في تنامي الشعور باليأس بعد الجولة الثامنة من المحادثات الشاقة في جنيف منذ يونيو/حزيران 2012. ومن جانب آخر، تسعى موسكو للحفاظ على دورها في الوقت الذي بدأت فيه قيمة المساعدات العسكرية تتضاءل كثيرًا أمام الاحتياج إلى الدعم المالي. تبقى هذه الدينامية مهمة للغاية في زيادة فعالية التدخل الروسي في عملية المفاوضات السورية. 

ملف PDF مرفق