»

عقد من القرارات: لبنان وسوريا، من الحرب اللبنانية الثانية إلى الحرب الأهلية السورية

10 آب 2017
عقد من القرارات: لبنان وسوريا، من الحرب اللبنانية الثانية إلى الحرب الأهلية السورية
عقد من القرارات: لبنان وسوريا، من الحرب اللبنانية الثانية إلى الحرب الأهلية السورية

معهد دراسات الأمن القومي (INSS)

أُطلق معهد دراسات الأمن القومي في سنة 1978.

يركز معهد دراسات الأمن القومي على إعداد بحوث ابتكارية وذات صلة وعالية الجودة من شأنها تشكيل الخطاب العام للقضايا المتعلقة بجدول أعمال الأمن القومي الإسرائيلي، ويقدم تحليلات للسياسة العامة وتوصيات لصانعي القرار والقادة العموميين والمجتمع الاستراتيجي، في إسرائيل والخارج.

الباحث

             إيال زيسر

البروفيسور إيال زيسر هو نائب رئيس جامعة تل أبيب ومختص في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط. شغل منصب عميد كلية العلوم الإنسانية 2010-2015، ومدير مركز موشيه دايان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا 2007-2010 ورئيس قسم الشرق الأوسط وتاريخ أفريقيا.

 

مقدمة مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير:

إنطلاقًا من رسالة مركز الإتحاد للأبحاث والتطوير  في إعداد الأبحاث والدراسات العلمية سياسية وإعلامية والإسهام في صناعة الوعي ورفع فعالية وكفاءة الأداء الإعلامي والإنتقال من مرحلة رد الفعل إلى أخذ دور الفاعل في صناعة القضايا السياسية، وجزءً من مهامه على رصد ما تنتجه مراكز الأبحاث في دول صناعة القرارات، إرتأى المركز أن يعمل على ترجمة هذه الدراسة الموسومة " عقد من القرارات: لبنان وسوريا،

 من الحرب اللبنانية الثانية إلى الحرب الأهلية السورية"، الذي أعدته مؤسسة "معهد دراسات الأمن القومي " في تموز عام 2017. حيث سعى المركز إلى تحليل البيانات المتعلقة بالباحث ورصد حساباته على مواقع التواصل الإجتماعي بفهم توجهاتهم وخلفياتهم السياسية والأمنية. بما يسهم بتعميق الفهم لمنطلقاتهم الفكرية في دراستهم وارتباطهم بمصادر المعلومات ومراكز القرار.

ملاحظة: تم استخدام مصطلحات في الدراسة تعكس وجهة نظر كاتبيها وعملًا بمعمل الأمانة والدقة الموضوعية لم يغير المركز أي من تلك المصطلحات وإن كان لديه منظومة مصطلحات مختلفة.

 

المقدمة

اتسمت المنطقة السورية – اللبنانية في العقد الماضي بحربين: الأولى كانت حرب لبنان الثانية بين إسرائيل وحزب الله في صيف عام 2006، والثانية هي الحرب الأهلية السورية التي بدأت في آذار/ مارس 2011، وما زالت مستمرة. وتُمثل كلتا الحربين مرحلتين جوهريتين فضلًا عن الخبرات المكتسبة لكل من لبنان وسوريا، حيث ستظل تأثيراتهما ملموسة للسنوات العديدة القادمة.

كانت ساعات انتهاء الحرب اللبنانية الثانية من أفضل الساعات لدى حزب الله، بل أكثر من ذلك، فقد استولى بشار الأسد على إنجازات التنظيم الشيعي في مواجهته مع إسرائيل من دون إطلاق رصاصة واحدة على الأقل. وبالمقابل، شكلت الحرب الأهلية السورية أزمة لحزب الله داخل لبنان وخارجه، كما أنتجت أزمة وجودية للرئيس السوري: ففي أكثر من مناسبة في خلال السنوات الخمس الأولى من الحرب الأهلية، كان مصير بشار الأسد محكومًا وأيامه على رأس النظام معدودة. لكن الحرب لم تكن لمجرد حسم مصير شخص كزعيم حزب الله حسن نصر الله أو الرئيس السوري الأسد، بل كانت قبل كل شيء لتغيير مصير لبنان وسوريا ككيانات حكومية.

على ما يبدو، فإن هاتين الحربين هما حدثان يدوران حول محورين منفصلين ومتوازيين: الأول حول العلاقة بين إسرائيل وحزب الله وسوريا، وإيران في الخلفية، في حين اندلع الحدث الثاني نتيجة الأزمة الداخلية ذات الجذور الإجتماعية والإقتصادية في سوريا وعبرت إلى لبنان. ولكن في الواقع، يرتبط الحدثان من حيث أهميتهما الجيوستراتيجية. فكلا الحربين تظهران الضعف المتأصل في الدول الفاعلة في المنطقة، أي الدول العربية في الشرق الأوسط. وقد تم إضعاف هذه الدول، بل وقد اختفت في بعض الحالات، تاركةً في أعقابها فراغًا مملوءً بمنظمات شبه حكومية مثل حزب الله وحماس. وقد أقحمت هذه المنظمات نفسها في مواجهات، سواء كانت خارجية (ضد إسرائيل في حالة حرب لبنان الثانية في صيف عام 2006) أو داخلية (في حالة الحرب الأهلية السورية المستمرة منذ ربيع 2011).

 وفي الوقت نفسه، تُظهر حرب لبنان الثانية والحرب الأهلية السورية حقيقة مفادها أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد يحتل مركز الصدارة، وتثبتان عدم قدرة القادة والدول في العالم العربي على  تحويل إنجازاتهم في الصراع ضد إسرائيل إلى عملة محلية لاستخدامها مع جمهورهم في الداخل بسبب التحديات الداخلية التي يواجهونها.

والواقع الأبرز هو أن هذين الحدثين هما دليلان سافران على تدخل إيران في بلاد الشام كجزء من محاولتها لتحقيق الهيمنة الإقليمية. هذا الطموح مصحوب برغبة إيران في إحداث إحتكاك مع إسرائيل، ولو كان صراعًا غير مباشرًا (كما أُثبت في حرب لبنان الثانية)، فضلًا عن الاحتكاك في سوريا مع العالم العربي السني، وتركيا.

في الواقع، عززت حرب لبنان الثانية والحرب الأهلية السورية الوجود الإيراني في المنطقة، وإن ألحقت هذه الحروب خسائر حادة بحسن نصر الله وبشار الأسد، عملاء طهران المحليين. فإن الوضع يضع إسرائيل في معضلة فيما يتعلق بالرد الصحيح على التحدي الذي ولدته إيران.

أولًا: حرب لبنان الثانية: الحرب الأولى لإسرائيل ضد إيران

بمجرد إنتهاء حرب لبنان الثانية، لم يضيع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أي وقت في وصف الإنتصار على أنه انتصار "إلهي" تاريخي على إسرائيل. ووفقًا لنصر الله، كانت الحرب نقطة تحول في النضال العربي الإسرائيلي، الذي سيستمر تحت راية الإنتصارات العربية التي من شأنها أن تؤدي إلى زوال إسرائيل. هذا وسارع بشار الأسد حليف نصرالله، إلى الاستيلاء على إنتصار حزب الله المزعوم على إسرائيل. وألمح أيضًا إلى أن سوريا قد تتبنى مسار المنظمة - المقاومة المسلحة - وتطبقها على مرتفعات الجولان لإجبار إسرائيل على إعادتها، على الرغم من أن سوريا كانت حتى ذلك الحين حريصة على الحفاظ على السلام والهدوء.

أما بالنسبة للآخرين في إسرائيل، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، فقد اختاروا أن ينظروا إلى حرب لبنان الثانية، على أنها ليست حلقة أخرى من الصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي الحرب السادسة، بل هي الحرب الأولى بين إسرائيل وإيران. واّدعوا أن هذه المرة كان حزب الله يقاتل بالنيابة عن طهران وفي خدمتها، وليس كعنصر لبناني أو حتى عربي. ويمكن العثور على أدلة تعكس رغبة العديد من اللبنانيين، حتى الشيعة، في معارضة حزب الله خلال الحرب نفسها، وإن لم يكن علنًا، وفقًا لوثائق سفارة الولايات المتحدة في بيروت التي ستعرضها ويكيليكس في وقت لاحق. وثمة أدلة أخرى على الدعم الصامت الذي تقدمه إسرائيل للعديد من الدول العربية، ولا سيما دول الخليج، في نضالها ضد حزب الله وإيران.

ثانيًا: نصرالله وأسد وإيران: لمن الإنتصار؟

تمثّل الإنجاز الرئيسي لحزب الله في حرب لبنان الثانية في قدرته على الصمود في وجه الهجوم الإسرائيلي ومواصلة إطلاق الصواريخ على إسرائيل حتى اليوم الأخير. وهكذا تمكنت المنظمة من استغلال الفجوة بين خطاب الحكومة الإسرائيلية الذي وعد بإبادة المنظمة بالكامل وبين عدم قدرة البلد على تحقيق هدف بعيد المدى وغير واقعي بشكل واضح (وهو ما يعبر بالتأكيد عن تردد إسرائيل في شن هجوم بري داخل الأراضي اللبنانية ). فبعد انتهاء القتال، قال الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إن الحرب أعطت لحزب الله الأولوية بلا منازع داخل لبنان، لأن واقع فشل إسرائيل في محاولتها ضرب المنظمة، ينتج عنه توقع عدم استطاعة أي من أعداء المنظمة اللبنانية أن يفعلوا ذلك.

وكان الإنجاز الكبير الذي حققه بشار الأسد بعد حرب لبنان الثانية هو تحريره من العزلة والحظر الذي فرضته الولايات المتحدة عليه قبل اندلاع الحرب. ففي الفترة التي سبقت الحرب، استهدفت إدارة جورج بوش الأسد لعدم اصطفافه في الجانب الصحيح في "الحرب على الإرهاب" التي أعلنتها الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، بالإضافة إلى موقفه المعارض لغزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. وقد دفع الرئيس السوري ثمن سياسته في لبنان، حيث استخدمت الولايات المتحدة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في فبراير 2005 كذريعة لإجبار سوريا على سحب قواتها من لبنان، مغلقةً بذلك مرحلة الحكم السوري الطويلة في لبنان.

بعد حرب لبنان الثانية، استقر الكثيرون في إسرائيل على الاعتقاد، وبالأحرى التوهم، بأن بشار الأسد لن يكون مصدر جميع المشاكل في المنطقة، بل ويمكن أن يكون شريكًا في حلها. واستند هذا الاعتقاد الواهم إلى افتراض أن الأسد يمكن أن يكون بمثابة مؤثر إيجابي ورادع تجاه حزب الله وإيران، الذي أصبح التهديد الرئيسي لإسرائيل والدول العربية المعتدلة في المنطقة، لذلك كان من الضروري محاولة ضمه لصفهم. وكان هناك افتراض آخر وهو أن قطع ولاء سوريا لإيران وحزب الله يمكن أن يُضعف بشكل كبير قبضة طهران على بلاد الشام ويقلّل من قدرتها على إعادة بناء القوة العسكرية لحزب الله.

ومع ذلك، منذ حرب لبنان الثانية، تطوّر حزب الله في الواقع من حيث القوة: إذ زادت ترسانة صواريخه من 12،000-18،000 إلى حوالي 100،000 في خلال السنوات العشر بعد الحرب، وبعض هذه الصواريخ تملك نطاقات تغطي كل إسرائيل مع مستويات أدق وقوة تدميرية أكبر من أي من تلك التي خدمت المنظمة في عام 2006.

بناءً على ذلك، ليس من المستغرب أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت قد أهوى بيده إلى النظام السوري في وقت مبكر من عام 2008 في محاولة منه للتوصل إلى هدنة سلام مع دمشق من شأنها إنهاء "محور الشر" الذي يتألف من سوريا وإيران وحزب الله. وحتى في واشنطن بعد عهد جورج بوش، سارع الرئيس باراك أوباما إلى تحسين العلاقة مع الرئيس السوري. لكن في النهاية، باءت مبادرات السلام الإسرائيلية التي تسعى إلى التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي – سوري بالفشل، بسبب الفجوة بين الجانبين فيما يتعلق بمطالبة دمشق بسحب إسرائيل إلى ضفاف بحيرة طبريا. كما ظلت العلاقات الأمريكية مع سوريا باردة.

هذا وقد غيّرت حرب لبنان الثانية توازن القوى الداخلي ضمن "محور الشر"، على الرغم من أن بداية هذا التغيير ظهر قبل الحرب. ففي هذا التحالف الثلاثي، بدأت إيران في تحديد النبرة وقيادة الطريق، وتحول حسن نصر الله إلى القيادة المحلية الأكثر أهمية في المحور وبشار الأسد إلى تابع، أي تقريبًا الشريك المرافق للأطراف الثلاثة.

كانت سوريا الكيان الذي يحدد أي شيء له علاقة بلبنان، بما في ذلك وجود إيران هناك، إلى حين صعود الأسد إلى السلطة في يونيو عام 2000. إذ كان لسوريا وجود عسكري في لبنان حيث ضبطت البلاد بقبضة حديدية، ومارست أكثر من مرة نفوذها المعتدلة على حزب الله.

 علاوة على ذلك، كانت جميع القوى السياسية في لبنان تابعة لدمشق، بل وكانت تجري اتصالاتها مع حزب الله عبر سوريا.

 عندما أصبح بشار الأسد رئيسًا، بدا وكأن الزعيم الشاب سقط أسيرًا لسحر زعيم حزب الله وخاصة سحر انتصارات حزب الله ضد إسرائيل (لا سيما نجاح المنظمة في دفع إسرائيل للإنسحاب الأحادي الجانب من لبنان في مايو/ أيار عام 2000). وبعد أن اضطرت سوريا إلى سحب قواتها من لبنان في ربيع عام 2005، انسحب حزب الله أخيرا من تحت ظل سوريا، وأصبح برفقة إيران، الكيان الذي ساعد الأسد على مقاومة ضغط الولايات المتحدة عليه. هذا وكثفت حرب لبنان الثانية هذا الاتجاه، مما زاد من الاعتماد الشخصي والسياسي، وحتى العسكري للرئيس السوري على إيران وحزب الله.

ومثّل اندلاع الحرب الأهلية السورية في آذار / مارس 2011 استمرارًا مباشرًا لهذا الاتجاه. ونظرًا للتهديد الذي يتعرض له نظامه، أُجبر بشار الأسد على دعوة حزب الله ثم الحرس الثوري الإيراني للمساعدة. وقد دخل حزب الله القتال في سوريا في نيسان / أبريل عام 2013 في بلدة القصير، في الجزء الغربي من البلاد شمال لبنان، ومنذ ذلك الحين تم إرساله للقتال في أماكن أخرى في جميع أنحاء البلاد، وانضم الحرس الثوري الإيراني إلى القتال في أيلول / سبتمبر عام 2015.

هذا ووصلت القوات الإيرانية جنبًا إلى جنب مع ظهور الطائرات المقاتلة الروسية في سوريا، التي أُرسلت لمساعدة الأسد في حربه ضد المتمردين. وبالتالي، فإن قدرة الرئيس السوري على البقاء كرئيس للنظام وحتى قلب الطاولة على أعدائه كان إلى حد كبير - ربما بشكل حاسم - بالإعتماد على رغبة إيران وحزب الله في مساعدته.

ومن مظاهر الانعكاس في الوضع في مثلث العلاقات مع سوريا هو محاولة إيران وحزب الله ترسيخ أنفسها على مرتفعات الجولان ومن هناك بناء قاعدة لنشاطاتهما ضد إسرائيل. وكانت هذه طريقتهما التي يحاولان بها تحويل مرتفعات الجولان إلى ساحة للهجوم على إسرائيل، الأمر الذي من شأنه أن يلغي حاجتهما إلى العمل ضد إسرائيل من الحدود الإسرائيلية - اللبنانية. وكانت كل منقتهمإيران وحزب الله ل البلاد. إيران وحزب الله يخشيان أن يؤدي أي هجوم من لبنان إلى رد إسرائيلي قاسٍ بما في ذلك الهجمات التي تستهدف السكان الشيعة في جنوب لبنان. والحقيقة أن حزب الله كان حريصًا على الحفاظ على الهدوء على طول الحدود الإسرائيلية اللبنانية منذ حرب لبنان الثانية.

 هذا وقد عملت إسرائيل بجد ضد محاولات إيران وحزب الله للحصول على هضبة الجولان، كما يتضح من اغتيال القائد في حزب الله جهاد مغنية ومجموعة من المقاتلين في يناير / كانون الثاني 2015 بالقرب من القنيطرة، بالإضافة إلى قتل السجين المفرج عنه سمير القنطار في ديسمبر / كانون الأول 2015 في دمشق، الذي أرسله حزب الله لتجنيد الدروز من مرتفعات الجولان السورية للعمل ضد إسرائيل، وهاتين العمليتين تم نسبهما إلى إسرائيل. وأدّت هذه الاغتيالات إلى رد فعل لحزب الله في مزارع  شبعا "هب دوف"، في المثلث بين إسرائيل وسوريا ولبنان. وبعد مقتل مغنية، هاجم حزب الله دورية إسرائيلية في هذا القطاع، مما أسفر عن مقتل جنديين.

في الواقع، بما أن قوة إيران وحزب الله قد ازدادت في سوريا، أصبحت جبهة مرتفعات الجولان - وسوريا بشكل عام – ساحة مهمة ضد إسرائيل فيما يتعلق بمصلحة حسن نصر الله وقاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري. وقد حلّت هذه الحالة محل الوضع الذي كان سائدًا خلال حكم حافظ الأسد، والد بشار الذي قام منذ نهاية حرب "يوم الغفران" بتحويل لبنان كله إلى ساحة ضد إسرائيل.

ثالثًا: الإنشقاق السني-الشيعي

أدت رغبة إيران في الهيمنة الإقليمية وتشكيل مجال نفوذ من طهران، مرورًا ببغداد ودمشق، وصولًا إلى بيروت إلى زيادة التوترات في علاقاتها مع العالم العربي، فضلًا عن تركيا. وقد أدت هذه التوترات إلى تعميق الهوة الناشئة عن الصدع السني الشيعي المتفاقم الذي تميز به الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، نختصرها بهذه التعابير: في العراق، حيث تسيطرعلى السلطة الأغلبية الشيعية مع تهميش الأقلية السنية، العنصر السابق الحاكم في العراق؛ في لبنان، حيث يبرز رغبة حزب الله في الهيمنة على لبنان على حساب السنة. في الخليج واليمن، حيث يتزايد التوتر السني الشيعي. وأخيرًا، في سوريا، حيث يبرز النضال السني للإطاحة بنظام بشار الأسد، وهو عضو في الجماعة العلوية التي تدعمها إيران وحزب الله.

كل هذا حوّل المنافسة السياسية والايديولوجية التي كان يتم احتوائها وتقييدها إلى عنف، وفي بعض الأحيان إلى مواجهة قاتلة بين السنة والشيعة في جميع أنحاء المنطقة. فإيران هي أحد أطراف النزاع، يرافقها حلفاء محليون في العراق وسوريا ولبنان واليمن. والطرف الآخر يشمل الدول العربية السنية وتركيا، جنبًا إلى جنب مع الجماعات الإسلامية السلفية، مثل الجماعات المتمردة في سوريا التي تدعمها أو حتى تسيطر عليها دول عربية مختلفة وآخرين هم حلفاء لتنظيم القاعدة، مثل جبهة النصرة (جبهة فتح الشام، في تجسيدها الجديد) بالإضافة إلى الدولة الإسلامية "داعش"، التي برزت بشكل خاص ضد الشيعة، وكذلك الأقليات الأخرى، سواء كانت إسلامية أم لا (مثل العلويين والدروز واليزيديين، ومجموعات مسيحية مختلفة).

إن قرار إيران بإرسال حزب الله إلى المعركة بجانب بشار الأسد في سوريا ربيع عام 2013 دفع بمحاولة الجماعات المتمردة المناهضة للنظام السوري إلى الإنتقام من الشيعة في لبنان من خلال القيام بسلسلة من التفجيرات الإرهابية والنيران الصاروخية ضد التجمعات الشيعية في بيروت ووادي البقاع، مما أسفر عن مقتل العشرات وجرح المئات.

وهذا بدوره جعل حزب الله يعمّق مشاركته في الحرب السورية أكثر من ذلك، مع التركيز بشكل خاص على المناطق الحدودية السورية اللبنانية، مثل جبال القلمون ومنطقة البقاع الشمالية. وقد أدى تورط حزب الله المتزايد في سوريا إلى مقتل حوالي ألف من مقاتلي المنظمة. ويعود العامل الأبرز وراء عدد القتلى هو تطرف المنظمات السلفية المقاتلة في سوريا، التي تعتبر أي شيعي عدوًا يستحق الموت. وعلى الرغم من أن مقتل عناصر حزب الله أثار استياءً بين الشيعة في لبنان، فإن الطبيعة المتطرفة والقسوة الوحشية التي تمارسها المنظمات السلفية تجاه الشيعة وممثليهم في سوريا تركت في الواقع الشيعة اللبنانيين دون خيار سوى تغطية حزب الله.

رابعًا: سوريا ولبنان: بين موسكو وواشنطن

روسيا، اللّاعب المهم الذي كان غائبًا عن الساحة في الشرق الأوسط في العقد الأول من هذا القرن يعود الآن مع الكثير من الضجة. وقد استغلت موسكو وضع الولايات المتحدة الضعيف في المنطقة الذي بدأ بالفعل منذ فترة ولاية جورج ووكر بوش الرئاسية نظرًا لتورط الولايات المتحدة في العراق وفشل السياسة الأمريكية فى سوريا ولبنان. وكان الهدف من هذه السياسة هو إضعاف بشار الأسد وربما إسقاطه، فضلًا عن تقوية الفصائل اللبنانية المناهضة لحزب الله برئاسة سعد الدين الحريري، الزعيم السني في البلاد. وقد حاول باراك أوباما في بادئ الأمر التقرب إلى سكان المنطقة وقادتها برسائل ناعمة ومصالحة، ووعود بوضع لائحة نظيفة في العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم العربي. ولكن بعد أن ثبُت أن ذلك لا جدوى منه وأن المنطقة عالقة في الربيع العربي، تخلى أوباما عن رؤيته وسعى إلى أن ينأى بنفسه عن المنطقة ويقلل من مشاركة الولايات المتحدة إلى الحد الأدنى.

سمح هذا الضعف الأمريكي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالعودة إلى الشرق الأوسط وملء الفراغ. إذ اختار بوتين أن يكون أول تحرك له  في الساحة السورية، ولتحقيق هذا الهدف كان بوتين مستعدًا للتعاون، تكتيكيًا فحسب مع إيران ومع حزب الله. وفي سبتمبر/ أيلول عام 2015، أعلنت روسيا تورطها العسكري في سوريا. في الواقع، تضمن هذا التعاون الحماية الروسية ورعاية النشاط الإيراني وحزب الله في سوريا، التي من وجهة نظرهما وفرت لهم مزايا واضحة: الشرعية الإقليمية والدولية، وعلى الصعيد الثنائي المباشر - إمدادات الأسلحة الروسية إلى إيران.

إن التقاء المصالح الإيرانية والروسية، حيث يُعتبر حزب الله شريك وراء الكواليس، لم ينجح في إخفاء التوترات الكامنة والاختلافات الأساسية بين الجانبين فيما يتعلق بمستقبل سوريا: فهل ستكون دولة تحت تأثير إيران أو روسيا؟

خامسًا: من الساحة الخارجية إلى الساحة الداخلية

إن انتصار حزب الله في حرب لبنان الثانية لم يساعد المنظمة كثيرًا في الداخل: لا داخل الطائفة الشيعية التي كانت مستاءة من الثمن الذي دفعته للحرب، ولا للأطراف الآخرين في داخل الساحة اللبنانية، التي ربما يكونوا قد أُعجبوا بقدرة حزب الله على الصمود في وجه الضربات الإسرائيلية، لكنهم ظلّوا عازمين على الوقوف بثبات ضد التحدي الذي تمثله المنظمة. إذ تمكنت قوى 14 آذار في الانتخابات البرلمانية اللبنانية في حزيران / يونيو 2009، بقيادة عائلة الحريري السنية، وشركائها الدروز والمسيحيين من الفوز بالأغلبية ضد معسكر حزب الله الشيعي - أمل وحلفائهم المارونيين، بقيادة الجنرال ميشال عون.

 وفي الوقت نفسه، تمثلت نتيجة التحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري في توجيه اتهام ضد بعض كبار موظفي حزب الله. على الرغم من رفض المنظمة رفضًا قاطعًا الاتهامات الموجهة إليها، ورفض تسليم الأشخاص المعنيين، فإنها تجنبت أيضًا تضييق التوازن في الساحة اللبنانية، لأن الحكومة اللبنانية، التي ينتمي إليها حزب الله، تسهم في تمويل اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الحريري والمحكمة الدولية التي تحاول غيابيا مشاركة عناصر حزب الله.

لقد اضطر حزب الله إلى مواصلة القتال من أجل الهيمنة على الساحة اللبنانية الداخلية، مع اعتماد بعض المرونة السياسية والصبر، حتى الرغبة في العمل بتوافق مع حكومات التحالف، طالما أنها تخدم أهداف المنظمة.

على سبيل المثال، كان حزب الله عضوًا في معظم الحكومات في لبنان التي تشكلت منذ حرب لبنان الثانية، ولكن عندما شعر بالتهديد تعامل بعنف: ففي مايو/أيار 2008، بعد أن أثرت قرارات الحكومة على مصالحه، سيطر حزب الله على بيروت الغربية إلى حين تحقيق اتفاق الدوحة الذي أعطاه مخرجًا من المأزق الذي استمر بين القوى الأساسية في لبنان.

في سوريا، فشل الأسد في ترجمة نجاحاته على المسرح الدولي - كشخص تحدى إسرائيل والولايات المتحدة، وتمكن من تحرير نفسه، من دون إلحاق أذى أو تقديم تنازلات أيديولوجية، من العزلة التي فرضها جورج دبليو بوش – إلى تعزيز وضعه في الرأي العام السوري، وخاصة في القطاع السني في المناطق الريفية وفي أطراف سوريا، هذه المناطق التي تعاني من أزمة اقتصادية عميقة بسبب الجفاف والسياسة الحكومية التي تسعى إلى تعزيز الانفتاح الاقتصادي على حسابها، والتي كانت المسؤولة عن بدء موجة الاحتجاجات المناهضة للأسد في مارس 2011، والتي تطورت لاحقا إلى الثورة السورية ثم إلى حرب أهلية سورية.

 

الخلاصة

في صيف عام 2006، توقع حسن نصر الله أن حرب لبنان الثانية ستصبح علامة تاريخيًا بارزة و بدايةً للعدّ التنازلي لزوال دولة إسرائيل. وبنفس اوالزةتاإلى الثورة السورية ثم الجيةتويةلطريقة، سعى نصر الله إلى جعل الحرب مرحلة على طريق هيمنة حزب الله في لبنان. لكنه في الواقع، فشل.

 إذ لم تفكك حرب لبنان الثانية معسكر المعارضين لحزب الله في لبنان، وسلطت الضوء أيضًا على الهوية الشيعية للمنظمة، وعلاقاتها مع إيران، واعتمادها على طهران، والامتثال للإملاءات الإيرانية.

وعلاوة على ذلك، يمكن اعتبار حرب لبنان الثانية تجربة، وإن كانت غير مباشرة، للثورة التي تحدث في سوريا، وهي ثورة لا تستهدف بشار الأسد فحسب، بل تستهدف أيضًا حليفه حزب الله.

لتحميل الدراسة PDF