»

الإعلام والسّيطرة

13 آذار 2017
الإعلام والسّيطرة
الإعلام والسّيطرة

حسين بن عيسى - 03-03-2017

مقدّمة:

تنامت أدفاق الإعلام خلال العشريّتين الأخيرتين بمختلف أصنافه المقروء والسّمعي والبصري والالكتروني. وبوتيرة متصاعدة، وأصبح انسياب المعلومات وتخطّيها عوائق الجغرافيا، ونقلها بشكل آني أحيانا ليتلقّاها ملايين البشر في شتّى أصقاع المعمورة، سمة أساسيّة للعولمة ومظهرا دالاّ على امّحاء الحدود وتخطّي حواجز الحجب والتّكميم، بما يشي بترابط أجزاء المجال العالمي في ظلّ قرية كونيّة متشابكة تزداد ترابطا بمرور الوقت. ولكن هل جنت كلّ أقطار العالم ومجموعاته الإقليمية ذات الفوائد من عولمة الإعلام ووظّفتها بنفس القدر في مجالات التّنمية؟ هل النّظام الإعلامي العالمي الذي انبثق منذ أوائل التّسعينات كان متكافئا وخدم الرّسالة المفترض أن تؤدّيها وسائل الإعلام الجماهيريّة أم أنّه كرّس ولا يزال الهيمنة شبه الكليّة لأقطار الشّمال المتقدّمة وفي مقدّمتها الأقطاب الاقتصاديّة الكبرى (الثّالوث) على أدفاق الإعلام بما يعزّز دورها المركزي ضمن المجال العالمي؟ هل التعدّد الظّاهري لوسائط الإعلام في الغرب يعكس حقيقة تنوّعا في المضامين والرّسائل التّي تنقلها أم أنّها تخدم أجندات أرباب العمل المالكين لها؟ هل وفّق العرب في تبوّء مقعد متقدّم ضمن المشهد الإعلامي العالمي في ظلّ الجنوح نحو تركّز وسائط الإعلام بين أيدي أقليّة قليلة من الأثرياء والأثرياء الجدد؟ هل تخلّص الإعلام التّونسي بعد الثّورة من لوثة تدخّل المال والمال السّياسي بشكل خاصّ؟

تحكّم الشّمال في أدفاق الإعلام

إنّ الصّفة الغالبة على أدفاق الإعلام هي اللاّتكافؤ، فأقطار الجنوب والتّي يقطنها 5/4 سكّان كوكب الأرض لا تساهم بصفة إجماليّة إلاّ بقدر ضئيل في صنع المعلومة وتداولها، وذلك لاعتبارات منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي، لعلّ أبرزها وباختصار شديد: ضعف الموارد الماديّة والتّقنيّة، وارتفاع نسب الأميّة، وضعف الدّخل الفردي، وغياب المهنيّة لدى رجال الإعلام، وانخفاض سقف الحريّات، وسياسات عدد من الأنظمة الأوتوقراطيّة في تكميم الأفواه وحجب الحقائق وملاحقة الصّحفيّين والمدوّنين ومستخدمي الانترنت. في الوقت الذّي ما فتئت فيه أقطار الشّمال تعزّز موقعها القيادي في سوق الإعلام العالميّة. فالدّول المتقدّمة والتّي لا تمثّل سوى 18 % من مجموع سكّان كوكب الأرض، دعّمت سيطرتها على الإعلام المقروء بفضل الإمكانيّات التّقنيّة والماليّة الهائلة لصحفها وبفضل الارتباط الوثيق مع وكالات الأنباء العالميّة الرّئيسيّة، ذات الجنسيّات الغربيّة. فالوكالات الأربع الرّئيسية “أسوشايتد براس” و”يونايتد براس” و”رويترز وفرانس براس” تحتكر لوحدها 80% من برقيّات الأنباء والتّحاليل الإخباريّة، وهي تفرض غربلة لما يتمّ تسويقه بحيث لا يتجاوز مجموعه ثلث ما يجمّع من أخبار من قبل صحافيّي مكاتب تلك الوكالات المنبثّة في بقاع عديدة في العالم. وتعدّ السّينما الغربيّة بحقّ ناقلا قويّا لأنماط العيش على الطّريقة الغربيّة ولمنظومةة القيم المرجعيّة التّي تسندها كالفردانيّة وروح المبادرة وروح الرّيادة وتقديس النّجاحات والتّحركيّة المجاليّة والارتقاء الاجتماعي والاعتداد بالنّفس. وفي طليعتها صناعة السّينما الأمريكيّة التّي كانت ولا تزال عاملا مساعدا على نشر أنماط الاستهلاك الأمريكيّة وطريقة الهندام وثقافة “الفاست فود” ونماذج الموسيقى الأمريكيّة (البوب، الجاز، البلوز، الهيب هوب..) وبالتّالي استحثاث الأمْركة  على أوسع نطاق في كلّ أنحاء العالم، حتّى غدت المنتجات الثّقافيّة وسائل “القوّة النّاعمة” (Soft Power) الأشدّ قوّة في تيسير عمليّات الغزو الثّقافي وأمضى سلاحا من ترسانة الأسلحة التّقليديّة وغير التّقليديّة والقواعد والجيوش والأساطيل الحربيّة المكلّفة. ومن المعلوم أنّ القليل من الأقطار يفرض هيمنة تكاد تكون مطلقة على السّلع الثّقافيّة والسينما، والتّصوير الفوتوغرافي والإذاعة والتّلفاز والمواد المطبوعة  والأدب والموسيقى والفنون البصريّة… والتّي لئن تضاعفت  تجارتها العالميّة أربع مرّات فانّ نحو 5/4 هذه التّدفّقات ينبع من 13 بلدا. وتصل هوليود إلى 2.6 مليار نسمة في كلّ أنحــاء العالم. ففي صناعة الأفلام السّينمائيّة يحظى الإنتاج الأمريكي عادة بنحو 85% من مشاهدي الأفلام في كلّ أنحاء العالم. ومن إنتاج إعلامي يزيد عن 3000 فيلم في السّنة، تبلغ حصّة هوليود ما يزيد عن 35% من عائدات صناعة الأفلام، كما كانت “الوم أ” بلد المنشأ الأوّل أو الثاني للأفلام المستوردة في 66 من 73 بلدا تتوفّر على بيانات للفترة 1994-1998 (1).  ولأنّ المنتجات الثّقافيّة لخصوصيّتها المرتبطة بالهويّة القوميّة، استثنت تجارتها من التّحرير الكامل فإنّ عديد الأقطار الغيورة على مصالح شركاتها المنتجة والمتوجّسة خيفة من “الغزو الثّقافي” الأمريكي لم تر حرجا في فرض تعريفات جمركيّة على واردات تلك المنتجات واتّباع نظام الحصص لساعات البرمجة والبثّ سيما من الأفلام السّينمائيّة تحت غطاء “الاستثناء الثّقافي” حال فرنسا. فإذا كان هذا حال دولة قويّة ومنافس ثقافي كبير على الصّعيد العالمي، فالأحرى أن تنتهج حمائيّة مواتية في البلدان المهدّدة حصونها الثّقافيّة من الدّاخل حال شعوب منطقتنا العربيّة-الإسلامية. فعولمة  الإعلام الجارفة تميل إلى أن تمحو التّعدّد الثّقافي وتصهر الشّعوب في بوتقة ثقافيّة كوكبيّة معولمة حيث تتقاسم مجموعات كبرى من الأفراد نفس أنماط العيش والاستهلاك الغربي ذي البعد الفرداني ونفس الأذواق والمعايير، بغضّ النّظر عن الحدود الوطنيّة والتّمايز الثّقافي. وضمن الفضاء الافتراضي ولئن جنحت الانترنت لكي تكون وسيلة اتّصال كونيّة بدليل الارتفاع المحسوس لنسبة النّفاذ إلى الشّبكة بشكل تصاعدي في مختلف الأقطار، فإنّ تنقّل المعلومة وبالدّفق العالي المطلوب مازال حكرا على بلدان الشّمال ذات البنية الاتّصاليّة الأكثر تطوّرا والقائمة على كابلات الألياف الضّوئيّة وعلى الطّرقات السّيارة للإعلام. فلقد غدت شبكات كابلات الألياف الضّوئيّة العنصر الكامن وراء الثّورة الرّقميّة، ففي زماننا هذا  99 % من المكالمات الهاتفيّة ومن أدفاق المعلومات عبر الانترنت تتمّ عبر شبكة تلك الكابلات. ففي سنة 2015 تمّت الاتّصالات بين القارّات بالأساس عبر 900000 كلم من الكابلات تحت البحريّة موزّعة على 340 شبكة تربط بين مختلف أجزاء العالم بما فيها الجزر والمحطّات العائمة للتّنقيب عن النّفط والغاز. عمليّة مدّ تلك الكابلات تتمّ عادة عن طريق سفن مختصّة (يطلق على الواحدة منها  navire-câblier) مجهّزة بحواسيب وآلات القيس الضّروريّة، ومملوكة لشركات غربيّة كبرى على غرارAlcatel Lucent Submarine Networks (ASN). وعادة ما يخضع إلقاء الكابلات في قيعان البحار والمحيطات لدراسة معمّقة لتجنّب النّتوءات الصّخريّة وبؤر الزّلازل، ويتبع مسارا محدّدا عند أعماق تصل إلى ما يزيد عن 90000 متر. وعند العمق يتولّى “محراث آلي” (« charrue »)، وهو آلة ضخمة وزنها قد يبلغ ما يزيد عن 30 طن، جهر خندق في قاع المحيط وفيه توضع الكابلات، وهذه الآلة قادرة على قطع زهاء 20 كلم في ظرف 24 ساعة متحكّم فيها من قبل تقنيين مختصّين من على ظهر السّفينة، إلى أن تصل نهاية الكابل إلى اليابس حيث يمدّد في أنبوب تحت-أرضي يصل في النّهاية إلى محطّة ربط أرضي une station de raccordement au réseau terrestre .(2) إنّ هذا بالتّأكيد يتجاوز إمكانيّات أقطار الجنوب، ويبقيها تحت رحمة الشّمال وشركاته الاتّصاليّة الكبرى التّواقة لأعلى إرباحيه، حيث تبقى مسألة دمجها للأقطار الأقلّ تقدّما في مجتمع الإعلام العالمي، آخر اهتماماتها. وتبعا لذلك وفي مجال استخدامات شبكة الانترنت لا زالت البشريّة في سوادها الأعظم تعتمد على متصّفحات وبرمجيّات مصمّمة أمريكيّا من قبل عمالقة صناعة المعلوماتيّة، وفي طليعتها شركة “مايكروسوفت” التي تحتكر ما يزيد عن 90% من البرمجيّات المستخدمة من قبل الحواسيب الشّخصيّة. أمّا محرّكات البحث الرّئيسيّة التّي تتولّى إسداء خدمات البحث عبر الشّبكة فأغلبها أمريكيّة أيضا، على غرار محرك بحث جوجل المصنوع من قبل شركة جوجل، وهو الأكثر استخداما في الويب، فجوجل تتلقى 3.5 مليار استعلام بحث في محرك بحثها في اليوم الواحد، وبلغات متعدّدة: (123 لغة). ومن المنطقي أن يؤمّن العدد بالغ الضّخامة لمستعملي هذه البرمجيّة، للشّركة عائدات ماليّة ما فتئت تتزايد ناهزت 16 ميار دولار، وتجني الشّركة أرباحها من الإعلانات باعتبارها أكبر سوق إعلانات على الإطلاق في العالم. وعلى صعيد شبكات التّواصل الاجتماعي التّي حوّلت عامّة النّاس إلى صانعين للمعلومة عبر المجال الافتراضي، تتقدّم الشّبكات الأمريكيّة على غيرها من حيث عدد المستخدمين في العالم. فقد وصل عدد المشتركين في الفيسبوك يوم 31 مارس 2015 إلى  1.44مليار نسمة، وقرابة 600 مليون شخص كلّ يوم يكونون مرتبطين بموقع التّواصل الاجتماعي هذا بلغات بلغ عددها 96 لغة. وفي يوم 17 ماي 2012 أدرجت شركة فيسبوك في البورصة في أعظم عمليّة إدراج في تاريخ قيم أسهم الشّركات العاملة في مجال التّكنولوجيا العالية، حيث طرح للبيع 421 مليون سهم بسعر قدره 38 دولار، وقد بلغت قيمة الشّركة البورصيّة 104 مليار دولار. وقد رأى المؤسّس “مارك زوكربير ثروته الشّخصيّة تتضاعف وفي ظرف وجيز، فابن 30 سنة (2015) بلغت ثروته الشّخصيّة حسب مجلّة فوربس، 19 مليار دولار بسبب تراكم الأرباح السّنويّة للشّركة (قرابة 3 مليار دولار سنة 2014). والأدهى والأمرّ أنّه  وبالرّغم من الأصوات التّي تعالت بفكّ احتكار بلد وحيد للحوكمة في الانترنت، ظلّت الولايات المتّحدة – وإلى وقت قريب – تتفرّد بمهمّة التسيير والإشراف على الشّبكة عبر هيئة تابعة لوزارة التّجارة الأمريكيّة تدعى اختصارا (ICAN) أي Internet corporation for assigned names and numbers)، وهي منظمة غير ربحية تأسست عام 1998 مقرّها كاليفورنيا مختصة بتوزيع وإدارة  أسماء المجال  noms de domaine وتخصيص أسماء المواقع العليا (ومثال ذلك .com, .info, وغيرها) في جميع أنحاء العالم(3). ترتكز الهيئة في إدارتها للشّبكة على 13 حاسوبا مركزيّا، 10 منها متمركزة بالولايات المتّحدة واثنان في أوروبا (لندن، واستوكهولم) والآخر في طوكيو. ومتاح للمنظمة نظريّا أن تفسخ أيّ موقع تشاء وتمنع الدّخول إلى أيّ موقع تشاء في أيّ بلد كان، ومخوّل لها أيضا منع تداول أيّة رسالة الكترونيّة تريد. وتحت ضغط العديد من الدّول والمنظمات غير الحكوميّة تمّ التّوصّل إلى اتّفاق عقب مفاوضات مضنيّة، فحواه أنّه ومنذ غرّة أكتوبر 2016 ستصبح الانترنت مسيّرة من قبل هيئة دوليّة غير ربحيّة متعدّدة الأطراف تضمّ الدّول والقطاع الخاصّ والمجتمع المدني. ولأنّ الجزء الأعظم من عمليّات تصنيع وإطلاق الأقمار الاصطناعيّة حكر على نادي ضيّق العدد من الأقطار الأكثر تقدّما وبشكل خاصّ أقطاب الثّالوث، فانّ الشّركات الاتّصاليّة الكبرى تنتسب إلى تلك الأقطار. فعبر سلسلة من عمليّات اقتناء وشراء الشّركات (Fusion-acquisition) برزت مؤّسسات عملاقة اكتسبت بانبثاثها عبر المجال العالمي طابعا عبر قطريّ من قبيل فودافون وأورنج وألكاتل واريكسون… بسطت سيطرتها على أسواق الاتّصال في العالم وكسبت ملايين المشتركين، فتضخّمت أرباحها بشكل مذهل.وأمام الأزمة التّي تردّت فيها الصّحافة الورقيّة في منافسة الصّحف المجانيّة ومواقع الصّحف الالكترونيّة، وتقلّص عائدات الإشهار واضطرار البعض منها إلى الاختفاء… ازداد تركّز ملكيّة الصّحف والمجلاّت الكبرى الأكثر رواجا بيد أقليّة ضيّقة العدد من رجال الأعمال والأثرياء، على غرار روبرت موردوخ رجل الأعمال الشّهير، والذي بات علامة للإعلام العالمي ومثالا نموذجيّا للاحتكار المفروض من قبل أقليّة على الإعلام الجماهيري. فبعد أن أحكم سيطرته على السوق الإعلامية في أستراليا قام بتوسيع نشاطه، وتحول عام 1969 إلى بريطانيا؛ حيث اشترى أولا صحيفة “News of the world”  الأسبوعية التي كان يصل حجم توزيعها إلى 6.2 ملايين نسخة وبعد عدة أسابيع اشترى صحيفة “The Sun” حيث كان يبلغ توزيع الجريدة في اليوم الواحد إلى 5 مليون نسخة، وبعد تملّكه للصّحيفتين غيّر في سياستهما التحريرية  رأسا على عقب اعتمادًا على الموضوعات الجنسية، واستحدث في صحيفة الصّان ركنا يوميّا ثابتًا لصورة فتاة عارية، وركّز على أخبار الفضائح وما يعجّ به المجتمع المخمليّ من أحداث(4). واكتسب مردوخ سلطة كبيرة لم يتوان في ممارستها على رجالات السياسة، فأصبح له اليد الطّولى في السّياسة البريطانيّة وقد اعترف أحد السّياسيين البريطانيين لمحطة IBC قائلا “كنا نخشى انتقاد صحف مردوخ”، ويقال إنّ سياسيين بريطانيين يسعون عادة إلى كسب ود الصحف التي يملكها مردوخ، ويقال كذلك إنّ طوني بلير رئيس الوزراء الأسبق زار مردوخ في أستراليا طالبا مساندته.(5) كما نجح الإمبراطور الإعلامي مردوخ في أن يملك عدة صحف محافظة مثل “النيويورك بوست” الأميركية والتايمز، ويسيطر على شبكة “فوكس نيوز”. وقد أبدى نزوعا مكشوفا وبلا تحفّظ في  اتجاه موال لإسرائيل وداعم لها. وإزاء تنامي الاستياء الشّعبي من سياسة الكيان الصّهيوني في تركيا سعى مردوخ إلى شراء صحيفة “تركيا” ووكالة “إخلاص” للأنباء. ووقوف مردوخ إلى جانب المحافظين الجدد  لا غبار عليه، و تبدّى في موقف وسائله الإعلامية الداعم لحرب العراق والذي استعمل في وقتها نفوذه الإعلامي لتأليب الرأي العام ضد العراق وكسب إعانة وتفهّم الرّأي العام الأمريكي لخطط بوش الابن والبنتاغون.ولم تشذّ القنوات التّلفزيّة والمحطّات الإذاعيّة، لما لها من دور في قصف العقول وتأثير جليّ على أذواق المستهلكين وعلى اختياراتهم السّياسيّة، عن نزعات التّركّز الرّأسمالي. وما مثال سلفيو برلسكوني صاحب أعظم إمبراطوريّة إعلاميّة بأوروبا ببعيد عن أذهان المراقبين للوضع السّياسي في ايطاليا حيث امتطى “الكافالياري”(الفارس) صهوة قنواته ليستقطب جمهور النّاخبين (منذ سنة 1980 أنشأ برلسكوني Canale 5 أول قناة خاصة في إيطاليا، وهو الآن يمتلك إمبراطورية إعلامية تضم أكبر ثلاث شبكات تلفزيونية في البلاد).

وفي فرنسا يعدّ برنار آرنو صاحب مجموعة “مويت هنسي لوي فويتون”– الشّركة عبر القطريّة المتخصّصة في منتجات الرّفاهيّة- مالكا لصحف مؤثّرة في قطاعات مختلفة من الرّأي العالم الفرنسي، مثل صحيفة “لي ايكو” وصحيفة “لوباريزيان” وصحيفة أخرى وهي “لوبينيون”، المعروفة بولائها لأرباب العمل(6). أمّا أسرة داسّو – صاحبة ثالث أكبر ثروة في فرنسا- فبدورها لم تشذّ عن القاعدة، وقد استطاعت في السّنوات الأخيرة أن تتحوّل إلى مالكة للصّحف التّالية: لوفيغارو، ولوفيغارو ماغازين، وفالور أكتيوال. فيما يمتلك رجل الأعمال “أرنو لاغاردير” العامل في مجال الصّناعة الجوفضائيّة  عددا من دور النّشر البارزة على غرار هاشات، وفايار، وهاتيي، ولاروس، وارمان كولان…الخ، ومن الصّحف باري ماتش، وآل ماغازين، ولوجورنال دي ديمانش… ومن القنوات التّلفزيّة كانال ج، وبلانات، وبلانات طالاسا…ومن المحطّات الإذاعيّة راديو أوروبا1، وأوروبا 2… وبالنّسبة إلى مجموعة بويغ، وإن كان نشاطها الرّئيسي هو في قطاع البناء والأشغال العامّة، فإنّها آثرت التّنويع في أنشطتها بولوج عالم الإعلام، فاقتنت القنوات تي أف 1، أوروسبور… وملكت شركات إنتاج الأشرطة تليراما، وتي أف 1 لإنتاج الأفلام… وغيرها. وفي المحصّلة تملك شخصيّات ثلاث ألا وهي آرنو لا غاردير، ومارتن بويغ، وسارج داسّو أصحاب كبرى المجموعات الماليّة: أوّل دار نشر في فرنسا، وثاني المكتبات، وأوّل القنوات التّلفزيّة من حيث نسب المشاهدة. (7) وتتجلّى آثار استحواذ أرباب العمل على مثل هذه الإمبراطوريّات الإعلاميّة الضّخمة بوضوح في فترات الغليان الاجتماعي، فإزاء التّحركات الاحتجاجيّة التّي اجتاحت المدن الفرنسيّة ربيع 2016 ردّا على قانون الشّغل الذّي طرحته حكومة مانوال فالس، وبتأطير من النّقابات الفرنسيّة وعلى رأسها الكونفدرالية العامّة للشّغل، وفي كيفيّة تصويرها إعلاميّا لتلك الصّراعات الاجتماعيّة، أبدت الكثير من وسائل الإعلام انحيازا للمساهمين من رجالات المال والأعمال وبعيدا أحيانا عن المعايير المهنيّة، من قبيل “دكتاتوريّة الكونفدرالية العامّة للشّغل” (افتتاحيّة لوفيغارو في عددها الصّادر يوم 26 ماي) و”مخرّبو الجمهوريّة “(افتتاحيّة 18 جوان) و “راديكاليّة شاملة و تقنيّة ثوريّة تنسّق بمهارة، أو هي طريقة لشلّ البلاد… إنّ الكونفدرالية… تريد تدمير كلّ شيء”( نشرة الثّامنة الرّئيسيّة بقناة فرنسا 2 بتاريخ 23 ماي) أو ” الكونفدرالية… تريد توسيع حركة الإضراب لتشمل المراكز النّوويّة وقطاع الكهرباء، فهل ستكون المرحلة القادمة الدّعوة إلى حمل السّلاح في حرب أهليّة؟” ( التّغريدة الخاصّة بجان-ميشال آباتي، صحفي بإذاعة أوروبا1 على شبكة تويتر بتاريخ 25 ماي)(8)… وواضح أنّ وسائل الإعلام بدا وكأنّها تخوض معركة وتتصرّف وكأنّها قوّة سياسيّة، وهي في الحقيقة رجع صدى لكتلة رجال الأعمال المتنفّذة.

وبالنّظر إلى عضويّة العلاقة بين بارونات المال والأعمال وعالم الإعلام تقلّص هامش حريّات التّحرير داخل محطّات إعلاميّة كبرى معروفة بقوّة إشعاعها وتحقيق برامجها نسب مشاهدة عالية، رغم ممانعة الصّحفيين ورجال الإعلام الشّرفاء الذين دأبوا بمهنيّة على كشف الحقائق، وعدم التّستّر على أيّ كان أيّا كان موقعه، حتّى وإن تضاربت تغطيتهم الإخباريّة للأحداث مع مصالح مشغّليهم. ففي قناة”كنال بلوس”( Canal+) المشفّرة …Jean-Baptiste Rivoire الصّحفي ورئيس التّحرير المساعد للبرنامج التّلفزي (  Special Investigation) والذي تبثّه القناة، تجاسر على نقد التدخّل المباشر للإدارة في الخطّ التّحريري للقناة منذ أن آلت إدارتها إلى Vincent Bolloré، هذا النّقد الذي كلّف صاحبه إحالته على التّسريح من العمل بتعلّة “إحراج شركاء القناة” على حدّ تعبير بولوري. وكانت لجنة التّحقيق التّي تعود لها صلاحيّة النّظر في إمكانات بثّ البرامج المقترحة قد رفضت سبعة من جملة أحد عشر برنامجا مقترحا تعلّق بعضها بالآتي ذكره:

•       “فلكسفاغن مؤسّسة كلّ الفضائح”.
•       ” فرانسوا، الوطن الأمّ” وهو مشروع تحقيق حول مدى قدرة الرّئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على الوفاء بالتزاماته في النّزاعات المسلّحة خارج فرنسا.
•       “العمليّات الإرهابيّة: إخلالات أجهزة الاستخبارات”
•       “الخزائن المذهّبة للجمهوريّة” البرنامج الذي كان متوقّعا أن يتطرّق إلى الأجور المبالغ فيها لمتقلّدي الوظائف العليا داخل الإدارة العموميّة.
•       “قمع صنع في فرنسا” حول تصدير فرنسا لوسائل قمع وتعذيب لحكّام دول تعتبر حليفة لفرنسا.
•       “نوتيلا، خبز الفتنة” (9)

وفي الولايات المتّحدة الأمريكيّة ورغم التّنوّع الظّاهري للمشهد الإعلامي إلا أنّ مختلف وسائل الإعلام وشبكاته مملوكة لبارونات المال والأعمال وخاضعة لإرادة وتوجيهات الأسواق والمضاربين، وعموما من ينفرد بالحكم والتّقرير والتّسيير والتّأثير في الرّأي العام الأمريكي، لا يخرج عن الثّلاثي التّالي الذي اختصره أحدهم (10) في  3M(Money = المال ،Marketing=التّسويق ،Media = الإعلام) فالشّركات التّي (تسيطر على الإعلام بوسائله) كلّها كانت شركات عملاقة، وقد تقلّص عددها من 50 شركة عام 1984 إلى حوالي 10 شركات عام 1996، وهذه الشّركات العشر منها : شركة تايم وارنر(Time Warner)، ديزني(Disney)، نيوز كوربوريشن ليمتد(News Corporation Limited)، ويستنغهاوس(Westinghouse)، جنرال الكتريك (General Electric)… ولكن أين الشّبكات التّلفزيّة الكبرى؟ لقد أصبحت آن.بي. سي (N.B.C) جزءا من شركة جنرال إلكتريك، وانضمّت ABC إلى شركة ديزني، وانضمّت بدورها سي.آن.آن (C.N.N) إلى شركة تايم وارنر… وبذلك تكون كلّ وسائل الإعلام من الصّحف والمجلاّت واستوديوهات السّينما وشبكات الإذاعة والتّلفزة، قد تركّزت في أيدي أقليّة (من الشّركات) وهي تتقاسم القيم والمبادئ نفسها… والجميع يقدمّ الرّسالة ذاتها بلا زيادة أو نقصان في معظم الأحيان، وهذه الرّسالة تصمّم بالمقاس لتخدم أجندة أصحاب المال والنّفوذ. ولا تتوانى وسائل الإعلام تلك عن القفز على معايير الشّفافيّة  والمصداقيّة التّي تدّعيها في تغطيتها للأخبار المحليّة، إن هي تعاطت مع الشّأن الدّولي وأحداثه. ويبقى المثال السّاطع ما نقلته قناة سي أن أن (وهي قناة متخصّصة في الأخبار السياسية والاقتصادية يلتقط بثّها في 142 بلدا وتؤجّر للغرض 36 قمرا اصطناعيّا، وحقّقت سبقا صحفيّا بأن انفردت بتغطية حرب الخليج الثّانية 1991)، فقد بثّت صور طائر يحتضر قبالة شاطئ الخليج العربي بسبب طلاء أسود من النّفط كساه بعد إضرام قوّات صدّام حسين النّار في آبار نفط الكويت قبل انسحابه منها، وتبيّن أنّ ذلك الطّائر من الطّيور التّي اعتادت أن تحطّ في آلاسكا بعد أن أصابه ما أصابه في أعظم تسرّب للنّفط من على متن الباخرة “اكسون فالديز” في الولاية الأمريكيّة المذكورة. وكانت إحدى دور النّشر الأمريكيّة تعمّدت إخراج ترجمة  مؤلّف الخميني “الحكومة الإسلامية” أوائل الثّمانينات تحت عنوان”كفاحي” (من تأليف ادولف هتلر)، والقصد من ذلك استدامة الصّورة النّمطيّة السّلبيّة عن المسلمين ووصمهم بالإرهاب. ولا يجد بعض المفكّرين ذوي النّزعة التّحريريّة والمناهضين للعولمة المتوّحشة والذين تمّيزوا بنقدهم اللاّذع والجريء لاقتصاد السّوق المنفلت من كلّ عقال على غرار “نوام تشومسكي”، لا يجدون من يطبع مؤلّفاتهم وينشرها إلّا بشقّ الأنفس. أمّا عن دور جماعات الضّغط بمختلف تشكيلاتها في تحديد ملامح المشهد الإعلامي وانتظام التّأثير في رجال الصّحافة والإعلام بشتّى وسائطه، فقد أصبح من القضايا المسلّم بها في الكثير من الأقطار، بما يحدّ من هامش حريّات التّعبير والتّفكير والنّشر. وكنموذج لتلك الجماعات: اللّوبي الصّهيوني في بلد كفرنسا، كعبة حريّة الصّحافة كما هو شائع… فعن فاعليّة تأثيره حدّث ولا حرج لا فقط في السّياسة الفرنسيّة –وهذا ما كشفه وزير الخارجيّة الأسبق لوران دوما في إحدى المناسبات، (و من قبله شارل ديغول) وكلاهما كانا قد أدانا تأثيره المفرط على الإعلام(11)، وبحضور قويّ بات يثير ريبة الفرنسيّين أنفسهم. فحسب استطلاع للرّأي انبنى على مقابلات أجريت على مدى 18 شهرا بين شهري جويلية 2014 وجوان 2015 أي قبل الاعتداءات على مقرّ مجلّة شارلي ايبدو وبعدها، رأى ما يزيد عن نصف المستجوبين (56% ) أنّ اليهود يحوزون على الكثير من النّفوذ، وبالنّسبة لـ 41% منهم فقد رأوا أنّ حضور اليهود في الإعلام زائد عمّا يلزم (12) وبما لا يتناسب وحجمهم السكاني كأقليّة (000 470 فرنسي يدينون باليهوديّة أي ليس أكثر من 0,75% من العدد الجملي لسكان فرنسا سنة 2015)( 13) وقد نجح يهود فرنسا وبمرور الوقت في تثبيت أقدامهم داخل أوساط النّشر والإعلام والفنون والآداب والثّقافة وداخل الأوساط الأكاديميّة بشكل ملفت، وبذلك تشكّلت جماعة ضغط فاعلة أمكن لها الدّفاع عن مصالحها. وقد استغلّ اللّوبي الصّهيوني أحسن استغلال ذلك الموقع المتميّز للتّحرّك بيسر لكسب التّأييد لإسرائيل، وللتصدّي للمشكّكين في الايدولوجيا الصّهيونيّة حتّى إن كانوا من الكتّاب والباحثين المرموقين. وليس ببعيد عنّا قصّة المفكّر الفرنسي ذائع الصّيت روجي غارودي، الذّي دحض في مؤلّفه الشّهير «الأساطير المؤسّسة للسّياسة الإسرائيليّة» (14) الأسس الميتولوجيّة التّي استند إليها تأسيس إسرائيل لإضفاء بعض الشّرعيّة على وجودها، ومنها: أنّه لم يكن واردا لدى النّازيين الألمان أثناء سنوات الحرب العالميّة الثّانية أيّ مشروع للإبادة الجماعيّة ليهود أوروبا الذّين اعتقلوا وزجّ بهم في  المحتشدات كحلّ نهائي بل الفكرة التّي تطارحها النّازيون كانت نقلهم في البداية إلى مدغشقر، واستعيض عنها بتهجيرهم إلى أوروبا الشّرقيّة في مرحلة تالية، ولم تصدر حسب غارودي أيّ أوامر بالإبادة بل هي محض اختلاق من طرف الصّهيونيّة. كما أشار المؤلّف إلى أنّه لم ترد أيّة وثيقة عن النّازيين بشأن غرف الغاز، بل هذه الغرف مستحيل تحقّقها تقنيّا وعلميّا، وما الادّعاء بـ« صابون الدّهن البشري» الذّي استخلصه النّازيون من أجساد اليهود المعتقلين سوى كذبة خرقاء وفرية شوهاء. وأكّد غارودي في كتابه على أنّ الصّهاينة ولتضخيم عقدة الذّنب لدى الرّأي العام الغربي ولمواصلة استدرار عطف الدّول الغربية المانحة تعويضات لإسرائيل عن الضّحايا… يتعمّدون المبالغة في تقدير عدد ضحايا المحرقة، ويقدّمون رقم 6 ملايين قتيل، والحال أنّ مصادر يهوديّة أمريكيّة أشارت إلى أنّه كان في أوروبا أزيد بقليل من 3 ملايين يهودي سنة 1941. كما شجب المؤلّف عبثيّة التّركيز وبصفة مفرطة على ضحايا اللاّسامية النّازية بينما يتمّ إغفال السلاف والغجر الذّين دفعوا ثمن السّياسات النّازيّة باهظا. وإزاء هذا الطّرح الجريء والصّادم ثارت ثائرة صهاينة فرنسا، ومنع نشر الكتاب مرّات ببلد الحريّات بعد أن ساد الاعتقاد في هذا البلد أنّ عصر مصادرة الفكر قد ولّى إلى غير رجعة، بل ومثل الكاتب أمام المحاكم (على طريقة محاكم التّفتيش) بمقتضى قانون غيسو (Loi Gayssot  الذّي اعتمد في 13 جويلية 1990، نسبة إلى جان كلود غيسو النّائب عن الحزب الشّيوعي في البرلمان الفرنسي)، القانون الذّي يجرّم ويعتبر خطيئة  يعاقب عليها القانون، كلّ من ينكر الهولوكست. وهذا القانون لا يعتبر فقط انتهاكا للحقّ في حرية التعبير والنّشر المكفول بموجب الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، بل هو نسخة طبق الأصل لقانون صدر عام 19855 يحظر  بموجبه في الدّولة العبريّة إنكار الجرائم النّازيّة أو طرحها حتّى للمناقشة، ومن يطرح ذلك يسجن ويحكم عليه لمدّة خمس سنوات.  وإبّان المحطّات الانتخابيّة الكبرى اعتادت وسائل الإعلام على الاضطلاع بدور المؤثّر وبقوّة في توجّهات النّاخبين لصالح هذا المرشّح أو ذاك، بل تنساق أحيانا في دعاية مكشوفة لأحد المرشّحين خصوصا إذا كان ذا صلة متينة بدوائر المال والإعلام ويخدم مصالح الأوليغارشيا الماسكة بزمام الأمور، وتعمد في ذات الوقت إلى تدمير مرشّح آخر. ففي نطاق حملة الانتخابات الرّئاسيّة الأخيرة (2016) لم يسبق للصّحافة الأمريكيّة أن اتّخذت موقفا علنيّا مثل موقفها في تلك الانتخابات، فقد دأبت على تشويه السيناتور الاشتراكي عن ولاية فرمون: بيرني ساندرز الذّي كان من الممكن أن يحقّق نتائج أفضل من هيلاري كلينتون أمام دونالد ترامب. وكان ساندرز قد وعد بنظام شامل وعموميّ للتّأمين على المرض، كما اقترح ترفيعا هامّا في قيمة الأجر الأدنى المضمون، ومجانيّة التّعليم في الجامعة، وعبّر عن معارضته لنظام التّبادل الحرّ وما سبّبه من خسارة فرص العمل للأمريكيّين الخ. ويبدو أنّ هذا البرنامج لم يرق للصّحف الأكثر انتشارا ذات التّوجّه اليميني ك”الواشنطن بوست”، التّي في المائتي افتتاحيّة ومقال التّي خصّصتها لساندرز بين جانفي وماي 2016، شكّلت النّصوص التّي تتناول السّلبيّات أكثر من خمسة أضعاف النّصوص التّي عالجت الإيجابيّات. وفي أحد المقالات سخرت الصّحيفة من دفاع ساندرز حول وجود «طبقة أصحاب المليارات»، ودافعت بشدّة عن النّظام الاجتماعي القائم، فيما اعتبر أحد محرّري الصحيفة ترشيحه للرّئاسة عملا جنونيّا… في الوقت الذّي كانت فيه محطّات تلفزيّة تغدق المديح والإطراء على الملياردير ترامب.(15)  لقد لعب الإعلام الغربي دورا ساندا في عديد من الحالات لخطط السّياسة الخارجيّة للقوى العظمى ومناوراتها هنا وهناك تنفيذا لأجندات السيطرة وتملّك المواد الإستراتيجية والأسواق ولدحر القوى الوطنيّة في بلدان”الأطراف” أي العالم الثّالث التّواقة للاستقلال الاقتصادي والتّحكّم في الخيرات الوطنيّة بعيدا عن حسابات التّروستات الشّرهة للمال والنّفوذ. و آية ذلك الانقلاب الذي دبّرته وكالة الاستخبارات الأمريكيّة (سي أي أي) على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق الذي تحدى شاه إيران بتأميم الصّناعة النّفطيّة الإيرانيّة عام 1951 ومن بين الأسس التّي قامت عليها “العملية أجاكس” (تسمى بالفارسية “انقلاب 28 مرداد”) الموضوعة من قبل سي أي أي، تشويه صورة مصدق بإطلاق مظاهرات معادية له روّجت لها وسائل الإعلام المحلية والدولية، حتى وصفته صحيفة نيويورك تايمز بالدكتاتور وشبهته بهتلر وستالين. وقالت صحيفة التايمز البريطانية إن ما أقدم عليه مصدق يعدّ “أسوأ كارثة حلّت بالعالم الحرّ الرافض للشيوعية”(16) وانتهى الأمر بإلقاء القبض على مصدق وإجهاض إصلاحاته.وأمام التّكلفة الباهظة والمخاطر التّي تثيرها الحروب التّقليديّة، طوّرت أطراف المركّب الصّناعي- العسكري في الأقطار الرأسماليّة وسائل الحروب الالكترونيّة والمتمثّلة في إطلاق فيروسات منيعة،  على المنظومات الالكترونيّة “للدّول المارقة”، ولقد غدت القرصنة والهجومات السّيبرنيّة لغة العصر وسلاح المواجهة في زمننا هذا. ففي بداية العام 2011 ضرب فيروس “ستوكسنات “(Stuxnet) المنشآت النّوويّة الإيرانيّة، وتبيّن فيما بعد أنّ الفيروس طوّر من قبل الأمريكيين والصّهاينة واستغرق تطويره عشر سنوات من الجهود المضنية، وكاد ستوكسنات أن يؤدّي إلى انفجار مدوّ عواقبه كان من الممكن أن تكون  كارثيّة لمفاعل بوشهر ويقال إنّه استهدف مفاعل ناتنز الذي يحوي 7000 جهاز طرد مركزي لتخصيب الأورانيوم (17). ومنذ سنة 2010 تمّ تركيز القيادة الفرعيّة الأمريكيّة الخاصّة بالعمليّات السّيبرنيّة، بصفة رسميّة في فورميد بالمريلاند، وتولّى الجنرال كايث الكسندر، الذي كان منذ 2005 على رأس الوكالة الأمريكيّة للأمن، رئاسة هذا الهيكل أيضا، وبذلك يبدو أنّ مفهوم الدّفاع آخذ في الاتّساع لدى راسمي السّياسات الدّفاعية الأمريكيين، بعد إنشاء قاعدة عسكريّة خامسة بعد القيادة الأرضيّة، والفضائيّة، والبحريّة، والجويّة.(18) ولأنّها السّباقة في مضمار الثّورة المعلوماتيّة- الاتّصاليّة وما أفرزته من تطوّرات متلاحقة في تصنيع تكنولوجيّات الاتّصال والإعلام الحديثة وتحسين أدائها، لم تتأخّر الدّول الكبرى في توظيف أسبقّيتها تلك لتعزيز حضورها الجغراسياسي ومدّ يد العون للأنظمة الدّائرة في فلك نفوذها، لإعانتها على المحاصرة والتّضييق على المنشقّين والنّشطاء الحقوقيين وأنصار الحريّة… وقد اكتسبت برمجيّة “سمارت فيلتر”(Smart filter) المصمّمة من طرف Rescue computing   المؤسّسة المنتصبة بالغرب الأمريكي، سمعة سيّئة باعتبارها من الأدوات الأكثر فعاليّة التّي يستخدمها البوليس الالكتروني في الدّيكتاتوريّات المتخشّبة لغربلة الانترنت وحجب المواقع المعادية. ولئن استفادت دول العالم النّامي من بعض مزايا ثورة الإعلام والاتّصال، فإنّ مساهمتها في صنع المعلومات وتداولها وتوظيفها في مجال التّنمية لا زال محدودا. لذلك هناك من يشكّك في مقولة “المجتمع الإعلامي الكوكبي”، ويعتبر ذلك طرحا إيديولوجيّا خالصا ولا يعدو أن يكون ضربا من ضروب المزايدات الفكريّة العقيمة. فبأيّ معنى يجوز الحديث عن انخراط أقطار الجنوب في هذا المجتمع والحال أنّ عدد المشتركين في شبكات الهاتف الثّابت في مركز الأعمال بنيويورك حيّ مانهاتن، يفوق مثيله في إفريقيا جنوب الصّحراء بأكملها؟(19)

المشهد الإعلامي في الوطن العربي بين الفجوة الرّقميّة و تغوّل السّلطة و رأس المال

تجابه التّنمية في الوطن العربي تحدّيات خطرة، فبعد عقود من التّجارب التّنمويّة لا زال التّخلّف يلقي بظلاله القاتمة على الواقع العربي. لقد فوّت العرب فرصا تاريخيّة لبلوغ الإقلاع الاقتصادي المنشود، بتصّرف الحكومات اللاّعقلاني في الموارد المتاحة حيث سجّلت المنطقة العربيّة أضعف نسب نموّ اقتصادي خلال الفترة (1980-2000) بعد إفريقيا جنوب الصّحراء. فلئن أضحى استغلال سوائل المحروقات استنزافا يهدّد حصص الأجيال القادمة في التّمتع بتلك الخيرات الوطنيّة، فإنّ الإيرادات الماليّة المتأتيّة من المبيعات البتروليّة أسيء توظيفها – في ظلّ غياب رقابة شعبيّة فاعلة- من قبل النّخب الحاكمة، بل وأحيانا استأثرت بالجانب الأعظم منها أسر حاكمة تصرّفت في الرّيع النّفطي على طريقة زعماء القبائل (20) بما لا يمتّ بصلة لأساليب الدّولة الحديثة. ومن المفارقات المثيرة أنّ 13 دولة عربيّة نفطيّة لا زالت تعتمد على تصدير النّفط كمصدر أساسيّ للدّخل والحال أنّ أسواق الاستهلاك الرئيسيّة أي الدّول المصنّعة يتقلّص فيها دور المحروقات في توليد الثّروة، فقد تمّ الانتقال من 560 لتر مكافئ نفط في إنتاج 1000 دولار من النّاتج الدّاخلي الخام سنة 1971 إلى 380 لتر مكافئ نفط سنة 2002. لذا لم تعر الأنظمة العربيّة لاقتصاد المعرفة إلا قليلا من الاهتمام ولم تساير التّحوّلات التكنولوجيّة المتسارعة في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتّصال الحديثة إنتاجا وتصميما، لذا بقيت في مؤخّرة ركب إنتاج المعرفة وتداولها على الصّعيد العالمي. وضعيّة التأخر هذه تتعدّد مقاييسها الكميّة،  من ذلك أنّ البلدان العربيّة تتّسم بشكل عام بانخفاض نسب وسائط الإعلام، فانخفاض عدد الصّحف لكلّ 1000 شخص إلى أقلّ من 53 في الدّول العربيّة مقارنة مع 285 صحيفة لكلّ شخص في الدّول المتقدّمة، يعكس، بكلّ تأكيد، تراجع مستوى الصّحافة العربيّة واستقلاليتها ومهنيّتها.(21) وبلا مراء القيود التّي تفرض على الصحفيين وكثرة المواضيع المحرّمة التي يصعب التطرق إليها دون تجشّم مصاعب المساءلة والتتبعات العدليّة والإيقاف الاعتباطي في الكثير من الأحيان، وثقل الرّقابة الذاتيّة المسلّطة على الإعلامي، تفسّر ضعف التّأثير في صناعة رأي عام عربي واع ومؤثّر وتدحرج مكانة الصّحافة العربيّة وتدنّي ترتيبها العالمي حسب المعايير الدّولية. والأمر ذاته ينطبق على وسائل الإعلام المسموع والمشاهد (22) وإنّه لأمر له دلالته ما سجّل خلال السّنوات الأخيرة من دخول البيترودولار السّوق الإعلامي العربي، فانفجرت القنوات التّلفزيّة بشكل خاصّ (ما لا يقلّ عن 500 فضائيّة في الوقت الحالي) ويسّر بعضها لأباطرة الإعلام في العالم دخول تلك السّوق. مثال ذلك اتّفاقيّة الشّراكة بين مردوخ وشبكة روتانا  حيث بات الأسترالي مالكا لحصّة فيها. شركة روتانا تعتبر القوة الإعلامية المهيمنة في الشرق الأوسط، وتمتلك ست قنوات تلفزيونية وذراعا لإنتاج الأفلام، فهي  تستحوذ على 50 في المائة من إجمالي إنتاج الأفلام العربية، مع العلم أنها أنتجت نحو 22 فيلما في 2005 وقد وصف مالك الشّركة (الذي  له علاقات تجارية مع روبرت مردوخ وابنه جيمس مردوخ في النيوز كوربوريشن والآن في مجموعة روتانا) روبرت مردوخ بالصديق الحميم!! وكانت الارتباطات مع رأس المال الأجنبي قد انطلقت مبكّرا في مجال الاتّصالات، ففى عام 1997 بدأ رجل الأعمال المصري نجيب ساوريس المدير التّنفيذي لشركة أوراسكوم المصريّة، نشاطه الاستثماري في عالم الهاتف المحمول بتحالفه مع شركتىFrance Telecom  و Motorola بإنشاء شركة موبينيل للاتصالات التي استحوذت على 70% من الشركة المصرية لخدمات التليفون المحمول في مصر والمعروفة باسم موبينيل. وكانت موبينيل أوّل مشغل للنظام العالمي للهاتف المحمول GSM في مصر ويصل الآن عدد عملاء الشركة في مصر وحدها إلى 30 مليون شخص وبذلك تحتل المرتبة الأولى بلا منافس بين شركات الهاتف المحمول المصرية. (23) ولأنّ حديثي النّعمة الذّين راكموا ثروات طائلة جرّاء استثمارهم في حقلي الإعلام والاتّصال، كانت نجاحاتهم بسبب علاقاتهم الوطيدة برجال الحكم في مصر، فإنّ الكثير منهم لم يستسغ سقوط رأس النّظام المدوّي والسّريع عقب ثورة يناير 2011، فتمكّنوا من تسخير إمكانيّات هائلة وجيّشوا جيشا من الإعلاميّين لشيطنة الرّئيس المنتخب ديمقراطيا (محمّد مرسي) وتشويه أداء حكومته، واستطاعوا شراء ذمم صحفيّين ومقدّمي برامج دأبوا على تمهيد الطّريق للانقلاب الدّموي الذّي أوصل الجنرال السّيسي للسّلطة. ومقابل “الحركيّة” التّي يشهدها الإعلام المرئي والاتّصالات –حركيّة تختزل في كثرة وسائله لا غير، دون أن يفضي ذلك إلى تنوّع وثراء مضموني خلاّق – تشهد ( البلدان العربيّة) حاليّا حالة من الرّكود والفوضى في مجال تأليف الكتاب والتّرجمة، فعدد الكتب المترجمة حاليّا يقترب من 330 كتابا  وهو خمس ما تترجمه اليونان مثلا والتّي لا يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة، ويقدّر الإجمالي التّراكمي للكتب المترجمة منذ عصر (الخليفة العبّاسي) المأمون(القرن الثّامن ميلادي) حتّى الآن بحوالي 10000 كتاب وهو ما يوازي ما تترجمه إسبانيا في عام واحد… ويتأكّد هذا التّفاوت (من خلال) متوسّط الكتب المترجمة لكلّ مليون من السّكان في الوطن العربي، أي 3 كتب تقريبا مترجمة إلى العربيّة لكلّ مليون عربي مقابل 100 كتاب مترجم إلى العبريّة (لغة كانت على شفا الانقراض إلى وقت قريب) لكلّ مليون شخص في الكيان الصّهيوني. وفي مجال الإعلام الالكتروني تشير الإحصائيات أنّ عدد مستخدمي الانترنت في الدّول العربيّة وصل في السّنوات الماضية إلى 34% من مجموع السّكان، ويرجع الانخفاض لعدّة أسباب أهمّها ضعف مستوى المعرفة بالحواسيب وتملّك شيء من مشاعر الرّهبة والتّحوّط الزّائد من آلة ينظر إليها ككونها معقّدة (الكومبيوتر-فوبيا) وارتفاع أثمان الحواسيب وقيمة إسداء خدمات الانترنت، بالنّظر إلى تجذّر ظواهر الفقر، وتدنّي الدّخول، وتآكل المقدرة الشّرائية لدى الطّبقات الوسطى.بينما ارتقت نسبة  نفاذ الانترنت في الكيان الصّهيوني إلى ما يقرب من 50% من عدد السّكان، وخير دليل على التّفوّق الصّهيوني في هذا المجال أنّ عدد الشّركات العاملة في مجال تكنولوجيّات المعلومات والاتّصال يزيد عن 2000 وهو أعلى من عددها في الدّول العربيّة مجتمعة. لذا لا غرابة مع اتّساع الفجوة الرّقميّة بين العرب والصّهاينة، أن تتعمّق الهوّة بين الجانبين في مجالات العلم والتّكنولوجيا، فإسرائيل تنفق سنويّا ما يزيد عن 3.5 % من ناتجها الدّاخلي الخام (وهو من أعلى المعدّلات العالميّة) على قطاعي البحث والتّطوير مقابل 0,19 % في العالم العربي وهو تسع المعدّل العالمي وعشر ما توصي به منظمة الأمم المتحدة والبنك العالمي، ويبلغ عدد الباحثين الصّهاينة ما يزيد عن 100 باحث لكلّ 10000 من القوى العاملة مقابل 3 في العالم العربي، ويحتلّ الكيان الصّهيوني المرتبة الأولى عالميّا في نسبة صادرات السّلاح إلى إجمالي الصّادرات والمرتبة الخامسة بين عمالقة الدّول المصدّرة للسّلاح في العالم، والمرتبة الثّانية بعد الولايات المتّحدة من حيث عدد الشركات الصّغرى المدرجة في قائمة شركات التّكنولوجيا العالية التّي يتمّ تداولها في بورصات نيويورك، والمرتبة السّادسة في عدد براءات الاختراع المسجّلة بالنّسبة لعدد السكان متقدّما على فرنسا والمملكة المتّحدة وألمانيا(24) وحسب التّصنيف الذي يجريه المنتدى الاقتصادي العالمي كلّ سنة للبلدان الأكثر انفتاحا على تكنولوجيا الاتّصال والإعلام الحديثة، تقبع الأقطار العربيّة في ذيل القائمة.

ولئن اختفت تماما إرادة الأنظمة في تدارك التّأخّر التّكنولوجي في هذا الميدان بل ولا زالت تفرض حجبا وتعتيما على الكثير من المواقع الالكترونيّة، ولا زال يمثل مغرّدون ومحرّرو الصّفحات ومدوّنون، على القضاء بتهم التّطاول على الذّوات الملكية والأميريّة وتشدّد الرّقابة على الانترنت  بصفة إجماليّة… فإنّ سماحها وباستحياء لعمل شبكات التّواصل الاجتماعي والانتشار الواسع لتلك الشّبكات وسهولة نقل المعلومة بسرعة قياسيّة، أربك حسابات الأنظمة، بل ومهّد الطريق لإنجاح ثورات الرّبيع العربي. ففي الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الرّسميّة وجوقة المادحين والمبجّلين للطّغاة، تغضّ الطّرف عن تغطية أو مجرّد الإشارة إلى الحوادث المتسارعة للثّورات التّي امتدّت ألسنة لهيبها بعد أن اضطرمت نار النّقمة على الفقر والبطالة والتّهميش والنّهب المنظّم للثّروات من قبل مافيات الأنظمة، أو كانت تتحدّث بلغة خشبيّة عن الانجازات الموهومة لوليّ النّعمة… كان الفيسبوك ينقل صورا مغايرة وحقيقيّة عن القمع الوحشي وسيلان الدّماء. ونسجا على منوال ثورة 17ديسمبر-14 جانفي بتونس حيث اضطلع الإعلام الالكتروني بدور حيوي في إنجاحها وفكّ الحصار الإعلامي المفروض عليها، كانت ثورات 25 يناير بمصر و17 فبراير بليبيا و25 آذار بسوريا (تلك التّواريخ ترمز إلى الأيّام التّي حدّدت من قبل شباب الثّورات عبر الانترنت، وتعاهدوا فيها للنّزول للشّارع والتّظاهر) “ثورات الكترونيّة”e-revolution بامتياز. وبقي هذا الشّباب متحفّزا ولم يعدم روح المبادرة في إيجاد صيغ لدعم الشّعب الفلسطيني مثلا، فكان أن انطلق في شهر أفريل سنة 2013 هجوم منسّق على المواقع الرّئيسية في الكيان الصهيوني من قبل “هاكرز” من بقاع عديدة من عالمنا العربي، أفضت إلى فسخ عشرات المواقع وبثّ الفوضى والبلبلة في صفوف قطاعات حيويّة في الاقتصاد وفي مناشط هياكل الدّولة العبريّة.. ودشّن ذلك الهجوم السّيبرياني مرحلة جديدة من الكفاح ضدّ الصّهاينة أطلق عليها أحد الشّباب المشاركين فيه “الجهاد الالكتروني”.

المشهد الإعلامي بتونس بعد ثورة 14 جانفي بين التّخندق الإيديولوجي وسطوة  رأس المال

تردّي واقع الإعلام بتونس قبل ثورة 14 جانفي، لم يكن ليخفى على أحد وتدلّل عليه تقارير المنظمات غير الحكوميّة المختصّة والتّي كانت دوما في تقاريرها تشير إلى أنّ المقاييس التّي ضبطتها لحريّة الإعلام لم تكن تنطبق بأيّ حال من الأحوال على الإعلام التّونسي. وكان تقرير”صحفيّين بلا حدود” بوّأ نظام المخلوع بن علي الرّتبة 169 بين 174 دولة شملها تقريرها الصّادر سنة 2010 أي بين أكثر الأقطار رقابة على حريّة الإعلام. وكان المخلوع بين زعماء العالم الخمسة الأوائل تضييقا على حريّة الانترنت… شعاره في ذلك كما عبّر عن ذلك النّاشط الحقوقي المختار اليحياوي “Quadrillage ;Verrouillage ;Maquillage”(25) “تأطير ،حجب، تزيين”. فلقد دأب الإعلام على ترديد الأطروحات المألوفة للخطاب الرّسمي: التّخوين والاستقواء بالأجنبي لغير أحزاب الدّيكور الدّيمقراطي، وجاهة التّوجّهات التّنموية، تبنّي “فكر أوحد” (La pensée unique) في مجال التنمية القائل: بلا مجال سوى القبول بالانفتاح الاقتصادي والانخراط بأيّ ثمن كان في العولمة…

وأمام التّصحّر الثّقافي الذي اعترى البلاد والعزوف عن القراءة والمطالعة لدى الكثير من التونسيين وخصوصا الشّباب (حسب اللّجنة الوطنيّة للاستشارة حول الكتاب والمطالعة والتّي أجرت استبيانا في محاولة لتحديد علاقة التّونسيّين بالكتاب سنة 2009، تبيّن أنّه  بحدود ربع التّونسيّين (22,74 % ) لم يقرؤوا كتابا واحدا في حياتهم)، نما الإقبال على استخدام الانترنت ( بلغ عدد مستخدمي الشّبكة 4 ملايين تونسي سنة 2010) والانضمام إلى شبكة التّواصل الاجتماعي الفايسبوك بين الشّباب بشكل خاصّ متحدّين الرّقابة المفروضة ومتفنّنين في الالتفاف عليها بفضل كواسر الحجب التّي سهل تحميلها مجانا من الانترنت. وكانت مبادرة بن علي شخصيّا بالإذن برفع المنع عن الفاسبوك سنة 2008، كمن حفر قبره بيديه بالنّظر إلى الدّور الهام لشبكات التواصل الاجتماعي في الثّورة، فقد نما عدد التّونسيّين المنخرطين في الفايسبوك نموّا انفجاريّا ليبلغ عدد الذين يملكون حسابات أكثر من 800 ألف تونسي سنة 2009 ومثّل الذين أعمارهم بين 18-24 سنة الشّريحة العمريّة الأكثر استخداما بنسبة تربو عن 40% من العدد الجملي للمستخدمين(26). وقد أسهم هؤلاء بشكل فعّال في تحميل وتداول آلاف مؤلّفة من صور ولقطات الثّورة التّي جابت كافّة أنحاء البلاد وشكّلت مهمازا استنهض همم أبناء الجهات بالخروج إلى الشّارع والالتحام بالجماهير الغاضبة والإجهاز على النّظام.

وخال التّونسيّون أنّ منعرجا جديدا سيَلِجُه الإعلام بعد الثّورة وسط أجواء الحريّات، ولكن بمرور الأيام تبيّن أنّ:

•       وسائط الإعلام الجماهيريّة مرتبطة بدوائر المال والأعمال. وبلا ريب لبارونات المال تأثير جليّ في الخطّ التّحريري وفي مضمون الرّسالة الإعلاميّة التّي تقدّمها القنوات التّلفزيّة للمشاهد، ليس أدلّ على ذلك من تعمّد بعض القنوات بثّ لقطات عري و كلاما نابيا، تخلّل المسلسلات الرّمضانيّة خاصّة. وهو ما شكّل تعديّا على هويّة البلاد وضربا لصميم المنظومة العقديّة للشّعب التّونسي. استفزاز للمشاهد حدا ببعض صفحات التّواصل الاجتماعي إلى إطلاق حملات مقاطعة لبعض القنوات، الشّيء الذّي أثّر سلبا على عدد مشاهديها، وشكّل تهديدا على عائدات الإشهار والدّعاية لديها.

•       التّخندق الإيديولوجي والتّحزّب المكشوف للكثير من الإعلاميّين، وهو ما أفقد ما يقدّمونه للجمهور المستهدف المصداقيّة والحرفيّة المطلوبة. وتبعا لذلك تغيّب عن قصد أحداث وإنجازات وتظاهرات وتطفو أخرى أقلّ أهميّة، بل وللقصف الممنهج للعقول بنيّة مبيّتة في التّعتيم والحجب يتعرّض المواطن لغسل دماغ حتّى أنّه من العسير إقناع الكثير ولو بالنّزر اليسير من الإنجازات التّي حقّقت في حكم أحزاب التّرويكا، وأصبح الكثير يرى أنّ البلاد كانت ولا زالت على حافّة الهاوية. وقد وصف أحد الدبلوماسيين الأجانب أنّه حين يتصفّح الصحف التونسيّة، يصدم بما يراه مخالفا للواقع حينما يمتطي سيّارته أثناء تجواله بالبلاد. وقد روى الشّاعر بحري العرفاوي في إحدى المرّات أنّه أثناء زيارته لأحد أقطار المشرق، تفاجأ بأنّ الصحفيين الأجانب الذين التقاهم يتصوّرون أنّ انهيارا كلّيا غاصت فيه البلاد.

إنّ ليّ ذراع الحقيقة في ما تتناقله وسائل الإعلام بما فيها العموميّة المملوكة للدّولة والمموّلة من قبل دافعي الضّرائب، أصبح حقيقة واقعة ومدعاة لحنق الكثيرين. وبالرّغم من طفرة حريّات التفكير والتّعبير والنّشر، يبدو أنّ طيفا إيديولوجيّا بعينه (من المحسوب على اليسار، وأحيانا من اليسار الاستئصالي، وكان بعض من رموزه من الإعلاميّين خدم منظومة بن علي الإعلاميّة) لا زال متحكّما في مفاصل الإعلام ويتعامل بمنطق الإقصاء مع أطراف أخرى مخالفة له -أو هكذا يظنّ- و ما استبعاد الشّريط السّينمائي “صراع” للمخرج منصف بربوش والذّي يصوّر مأساة المعارضين السياسيين لا سيما الإسلاميين طيلة عهد نظام بن علي… من العرض في مهرجان قرطاج السّينمائي في دورته الـ25 سنة 2014، إلاّ تكريسا لهذا النّهج الإقصائي. وكان المخرج قد أشار إلى أنه لم يتلق أي توضيح رسمي من إدارة المهرجان- مرجحا أن يكون فيلمه “مُنع لأسباب سياسية وانتخابية”. وأكّد مخرج “صراع” أنه وصل لهذا الاستنتاج بعد أن أعلمه أصحاب قاعات العروض بالعاصمة بأنه لا يمكنهم عرض الفيلم قبل الانتهاء من الانتخابات (الانتخابات الرّئاسيّة في جولتها الثّانية بين رئيس حركة نداء تونس الباجي قايد السبسي والرئيس الانتقالي محمد المنصف المرزوقي) كي لا يؤثّر على توجّهات النّاخبين، مذكرا بأنه تحدث في فيلمه عن التعذيب وتزوير الانتخابات” وهو أمر يتعارض مع مصلحة المنظومة القديمة”.(27) علما وأنّ المخرجة سلمى بكّار كانت عضوا في لجنة التّحكيم في المهرجان، وهي التّي كانت نائبة في المجلس الوطني التّأسيسي عن القطب الدّيمقراطي الحداثي (وهو ائتلاف من عدد من الشخصيات و الأحزاب اليساريّة كحركة التّجديد(الحزب الشيوعي سابقا) والحزب الاشتراكي اليساري) بعد أن فازت بمقعدها في انتخابات 23 أكتوبر 2011.

ويتّفق الكثير من الباحثين أنّ “المطرقة الإعلامية “(Matraquage médiatique) الممنهجة التّي تولّتها مختلف وسائل الإعلام أثناء تغطيتها لحملات الأحزاب في الانتخابات التّشريعيّة والرّئاسية بتونس التّي جرت في أكتوبر 2014- وفي اتّجاه شيطنة أحزاب التّرويكا التّي أدارت دفّة الحكم بعد الثّورة، باعتبارها المسؤولة عن كلّ الآثام والأدواء والرّزايا التّي حلّت بالبلاد… قد أثّرت تلك الحملات على توجّهات الرّأي العام، ودفعت الكثير من النّاخبين للتّصويت وبكثافة لصالح حزب حديث النّشأة في نوع من “التّصويت العقابي”، ليفوز بالحصّة الأكبر من أصوات النّاخبين ويحتلّ الرّئاسات الثّلاث، والحال أنّ وسائل الإعلام ولغايات فئويّة ضيّقة، وبتحريض من بعض الأثرياء وزعماء أحزاب المعارضة وأعلام النّخبة المتأدلجين، هم من كان وراء التّعبئة والحثّ على التّحركات الاحتجاجيّة التّي عرفت طفرة غير مسبوقة أثناء حكم التّرويكا ( 12000 تحرّك احتجاجي فقط لشهر أفريل 2012).

•       لم يستجب الإعلام، وبعد مضيّ زهاء ستّ سنوات عن نجاح الثّورة، لانتظارات المواطن التّونسي حيث ظلّت مشاغله مغيّبة ولم يرق المشهد الإعلامي لمستوى تطّلعاته في تحقيق أهداف الثّورة في المحاسبة والتّطهير. والسّبب في ذلك أنّ الكثير من الإعلاميّين كان لهم ارتباطات مشبوهة بالعائلات المافيوزيّة وبالنّظام بل وكانوا أعضاء بارزين في جوقة دعايته من الذين قضّوا ما يزيد عن العقدين من حكم المخلوع في الإشادة والتّعظيم وحبّروا مقالات في تشويه المعارضة و تلقّوا أموالا طائلة من وكالة الاتّصال الخارجي لتلميع صورة النّظام وتفانوا في ذلك حتّى اللّحظات الأخيرة قبل هروب وليّ نعمتهم… وها هم اليوم وقد لبس كلّ منهم بدلة الإعلامي النّزيه، ولكنّ حساباتهم القديمة مع المعارضة في عهد بن علي وهي الآن في السّلطة، يصفّونها الآن عبر التّحريض والنّقد اللاّموضوعي والتّجريح وتصيّد الأخطاء.(28)

•       انفجار للإعلام الحزبي في شكل صحف بالخصوص وقنوات تلفزيّة ومواقع الكترونيّة إخباريّة مع تصاعد عدد الأحزاب المرخّص لها ورفع التّضييقات عن الانترنت.

•       يبقى ما يصطلح عليه بالإعلام البديل خارج نطاق السيطرة والتّوجيه إجمالا، ولا زالت صفحات التّواصل الاجتماعي تمثّل فضاء رحبا لتناقل المعلومات والتأثير في الرّأي العام، والأهمّ ما يتيحه من فرص مشاركة في صنع المادّة الإخباريّة تصميما وتعليقا…

•       تجدّد النّقاش حول إشكاليّات قديمة-جديدة من قبيل حريّات الإعلام في علاقتها بالأخلاق والمثل والقيم وعالم المقدّسات. فهل هي حريّة منفلتة من عقال المثل تدير ظهرها للخلفيّة الحضاريّة والثّقافيّة للشّعب التّونسي وما استقرّت عليه هويّته منذ مئات السّنين؟ أم عليها أن تتقيّد بها فلا تعتدي عليها؟ و يثار الجدل كلّما انطلقت احتجاجات طيف من التونسيين حول ما يرونه تطاولا من قبل بعض الأعمال الإبداعية على المقدّسات، على غرار شريط “لا الله لا سيدي” لنادية الفاني أو فيلم “برسيبوليس”الذي بثّ في قناة نسمة، أو معرض قصر العبدليّة للفنون التّشكيليّة… وغيرها، الجدل محتدم بين من يرى الأعمال الفنيّة ينبغي أن تكون حلاّ من كلّ التزام أخلاقي وهي تبحث عن الاستيطيقا، وبين من يرى ضرورة احترام الثّوابت والقيم التّي ألفها التونسيون منذ القدم.

خاتمة

على عاتق الإعلاميّين العرب خصوصا، باعتبارهم يمثّلون السّلطة الرّابعة واجب الرّقيّ بواقع مهنتهم والانحياز للحقيقة دون سواها، ويقع عليهم عبء تيسير سبل الانتقال الدّيمقراطي في الدّول العربيّة بعيدا عن أساليب الإثارة والتّشهير وتصفية الحسابات الحزبيّة والمسّ من الرّأسمال الرّمزي للشّعب، لذا لا بدّ من الرّكون إلى مدوّنة سلوك من التّي تضبط أخلاقيّات المهنة والقبول بالاختلاف بعيدا عن منطق الإقصاء. وتنبغي الإحاطة بالظّروف الماديّة والمعنويّة للإعلاميين لكي لا يكونوا محلّ استقطاب من قبل المال الفاسد وحمايتهم من الاعتداءات والتّجاوزات، وتلك سبل للخروج من الواقع المأزوم للمشهد الإعلامي والوصول إلى إعلام محايد ومستقلّ.

المصدر